قالت تركيا مرارا، خلال الأيام القليلة الماضية، إنها ستطلق عملية عسكرية جديدة في شمال سوريا، لـ"إقامة منطقة أمنية بعمق 30 كيلومترا"، ولـ"محاربة إرهاب" يهدد أمنها القومي.
العملية المرتقبة -إنْ حصلت- ستكون الرابعة، بعد ثلاث عمليات أطلقتها تركيا، وفي جميع هذه العمليات حصلت تفاهمات مسبقة بين تركيا من جانب وبين روسيا وأمريكا من جانب آخر، وهي تفاهمات تأخذ شكل التنسيق المسبق بشأن العملية وحدودها، تجنبا للصدام، خاصة أن مناطق شمال شرق سوريا معقدة أمنيا، بسبب وجود العديد من القوى الأجنبية بها، ولهذا السبب أنشأ الجانبان الأمريكي والروسي غرفة تنسيق مشتركة.
مع أن تركيا تقول إنها "لن تنتظر الضوء الأخضر من أحد لبدء عمليتها العسكرية"، فإن من الواضح أن التفاهمات المطلوبة مع الجانبين الروسي والأمريكي لم تُنجز بعد، ولعل هذا ما يؤخر العملية التركية حتى الآن، إذ يقول الجانب الأمريكي إن أي عملية عسكرية تركية "ستزعزع الاستقرار في مناطق شرق الفرات"، وستعرّض قواته -أي القوات الأمريكية- هناك للخطر، حيث تواصل هذه القوات مع قوات سوريا الديمقراطية، "قسد"، الحرب ضد تنظيم "داعش" الإرهابي، فيما موقف روسيا يأخذ جانب الحرص والحذر معًا، وأحيانا تفهم الموقف التركي، وربما يأتي الموقف الروسي هذا في إطار موقف أنقرة من الأزمة الروسية-الأوكرانية، بعد أن رفضت تركيا التجاوب مع طلب واشنطن وحلف الأطلسي بفرض عقوبات على روسيا، وانتهاج سياسة متوازنة إزاء الأزمة، ومحاولة التوسط بين كييف وموسكو.
ولعل تركيا في كل هذه الحسابات ترى أنها أمام فرصة ذهبية للحصول على توافقات مع الجانبين الروسي والأمريكي لبدء عمليتها العسكرية في أي وقت، وهي تريد من هذه العملية تحقيق جملة أهداف، لعل أهمها:
1- إسقاط أي طموح لدى أكراد سوريا في الحصول على حالة من الكيانية السياسية، وتحميل الإدارة الذاتية في مناطق شمال شرق سوريا مسؤولية ذلك، بوصفها تابعة لحزب العمال الكردستاني، الذي تصفه تركيا بـ"الإرهاب"، وتحاربه منذ نحو أربعة عقود.
2- محاولة القول إنها بدأت بحلحلة قضية اللاجئين السوريين في الداخل التركي، والذين باتوا يشكلون عبئا على حكومة حزب "العدالة والتنمية"، لا سيما بعد أن تحولت هذه القضية إلى جدل سياسي حاد بين الحكومة والمعارضة في تركيا مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية، المقررة صيف العام المقبل، فيما يرى كثيرون أن قضية اللاجئين السوريين لا تُحل بهذه الطريقة، وإنما من خلال حل سياسي للأزمة السورية، وإن ما يجري عبارة عن "تغيير ديمغرافي وسياسي في شمال شرق سوريا" في إطار مصالح تركيا ونفوذها في الشمال السوري.
3- أن تركيا تريد من خلال هذه العملية وضع أوروبا وأمريكا والأطلسي عموما تحت الاختبار، من خلال ربط موافقتها على انضمام السويد وفنلندا إلى عضوية حلف شمال الأطلسي، "الناتو"، بدفع هذه الأطراف إلى دعمها والتعاون معها في محاربة "الطموحات الكردية"، وما تصفه أنقرة بـ"إرهاب" حزب العمال الكردستاني، فضلا عن رفع العقوبات المفروضة عليها من قبل عدد من دول الأطلسي في مجال شراء أسلحة ومعدات عسكرية.
أمام هذه الأهداف، التي تبدو مغرية لسياسة حكومة "العدالة والتنمية"، من الواضح أن تركيا، التي تدرك جيدا مدى انشغال موسكو وواشنطن بأزمة أوكرانيا، ستعمل بقوة للتوصل إلى تفاهمات مع روسيا وأمريكا، وذلك لدفع عمليتها العسكرية إلى حيز الواقع، لكن الحسابات الأمريكية والروسية إزاء هذه العملية، وتداعياتها على الحلفاء، والأزمة السورية عموما، قد تجعل من العملية العسكرية التركية محدودة وقصيرة ومحصورة في بقعة جغرافية، حيث يجري الحديث عن المنطقة الواقعة بين "تل رفعت" و"منبج" و"كوباني"-"عين العرب".
في جميع الأحوال، العملية العسكرية التركية -إنْ حصلت- لن تزيد الأزمة السورية إلا تعقيدا، وإنْ غيّرت بعض ملامح القوى وتوازاتها على الأرض في مناطق محددة، فالأزمة السورية في النهاية محكومة بالصراع بين القوى الكبرى، وتحديدا روسيا والولايات المتحدة، وبعزم هذه القوى على حلها في إطار القرارات الدولية، وليست من خلال عملية عسكرية هنا أو هناك.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة