تركيا من الداخل.. لماذا سيستمر عدم الاستقرار؟
نتائج الانتخابات المحلية بتركيا خلال 2019 وما تلاها من عزل رؤساء بلديات أكراد فائزين أسهمت في موجة عدم استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي
ظلت الساحة السياسية في تركيا طوال عام 2019 تتفاعل باتجاه المطالبة بالتغيير، وعلى الأرجح ستتواصل هذه الحالة خلال العام الجديد 2020، خاصة في ظل تنامي حالة الاستقطاب المجتمعي والتشظي السياسي.
هذا وقد أسهمت نتائج الانتخابات المحلية خلال 2019، وما تلاها من عزل رؤساء البلديات الفائزين من الأكراد في إحداث موجة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
وترسخت حالة عدم الاستقرار نتيجة التحولات السريعة في الإطار المؤسسي للدولة التركية لجهة النظام الرئاسي، وأيضا التغيرات المتتابعة في عناصر السلطة الحاكمة في ظل تصاعد الانشقاقات داخل حزب العدالة والتنمية، واستقالة عدد كبير من قياداته وقواعده المحلية.
وكذلك توتر العلاقة بين الحزب الحاكم والقوى السياسية الفاعلة في الداخل خاصة حزبي الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي الجناح السياسي للأكراد.
هيمنة هشة
رغم استمرار هيمنة "العدالة والتنمية" على مفاصل المشهد التركي، فإنه من غير المرجح أن تنقضي مظاهر عدم الاستقرار في تركيا، خلال العام المقبل 2020.
وكشفت الأصوات التي حصدها الحزب الحاكم في كل استحقاق انتخابي تراجعا في رصيده التقليدي، إضافة إلى تصاعد التوترات الاجتماعية، والفشل في محاصرة الأزمة الاقتصادية، خاصة تراجع قيمة الليرة بعدما فقدت نحو ثلث قيمتها أمام الدولار.
كما أضعف سلوك العدالة والتنمية في الداخل، والإصرار على تفصيل المشهد السياسي على مقاس طموحات الرئيس رجب طيب أردوغان، موقف الحزب الحاكم، لا سيما بعد تحويل البلاد لجهة النظام الرئاسي، وهو ما أكد الافتقاد لتوافق عام على الأطروحات السياسية للحزب.
تحديات ماثلة
ظلت حالة عدم الاستقرار هي العنوان الأبرز في المشهد السياسي التركي طوال عام 2019، وقد يظل هذا الوضع المعقد خلال العام المقبل، خاصة أن ثمة تحديات تعوق إمكانية الحفاظ على الاستقرار في البلاد، وتتمثل هذه التحديات في:
الهيمنة المطلقة:
تعاني تركيا منذ عام 2013 من هيمنة مؤسسة سياسية واحدة "حزب العدالة والتنمية" على النسق السياسي كله، حيث يمسك الرئيس وحزبه بمفاصل الدولة حتى أصغر شأن فيها.
إذ كرس منطق الممارسة السلطوية والإقصاء والاستبعاد السياسي ليس للمعارضة فحسب، وإنما للجناح الإصلاحي داخل الحزب الحاكم لمعارضته سياسات الحزب.
ولعل ما سبق يطرح إشكالية الثقة في "العدالة والتنمية"، ويفتح الباب لتساؤل رئيسي حول مستقبل الحزب الحاكم بعد إحالة عدد من قيادته للتأديب تمهيدا لطردهم.
وأثبتت تطورات الأحداث في تركيا بما لا يدع مجالا للشك أن الانقسامات داخل العدالة والتنمية بلغت مبلغا خطيرا، وأصبحت العصا الغليظة التي ترفع في وجه المخالفين والمختلفين من أعضائه وقياداته، فيما يحتكر الحزب السوق السياسية، ويتمتع بشبكات واسعة داخل مؤسسات الدولة وخارجها للدعم والإسناد.
وتميزت عملية إعادة بناء الدولة التركية في السنوات الأخيرة، بهيمنة حزب أردوغان على المجتمع، وهذا من خلال السياسات المتعددة التي انتهجتها النخبة الحاكمة في مجال الأمن والثقافة والاقتصاد.
وانتقل الحزب الحاكم إلى مرحلة جديدة من السلطوية، تجلت في الإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها الحكومة التركية عشية الانقلاب الفاشل في صيف 2016، حيث قامت دون سند قانوني بحملة تطهير، شملت كل القطاعات من التربية إلى الصحافة والمؤسسة العسكرية والقضاء، وصولا إلى الجامعات والمدارس والهيئات الصحية.
انشقاقات وأحزاب جديدة:
يشهد "العدالة والتنمية" أزمة حادة على خلفية استقالة عدد كبير من قيادته التاريخية وأعضائه، وتأتي هذه الانشقاقات التي انعكست سلبا على الحزب الحاكم بالتزامن مع مرور 18 عاما على تأسيسه في عام 2001.
وتتصاعد مخاوف أردوغان من توجه بعض الأطراف لتأسيس أحزاب سياسية جديدة، خاصة رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو ووزير الاقتصاد السابق علي بابا جان والرئيس السابق عبدالله غل، وهو ما دفع الحزب الحاكم أكثر من مرة قطع الطريق على ظهور حركات جديدة من قبل المنشقين.
وفي هذا الصدد تم تأسيس كيانات ديكورية لتسكين قيادات العدالة والتنمية فيها بحوافز مالية كبيرة، منها اللجنة الاستشارية العليا لرئاسة الجمهورية.
وترى الحركات المنشقة عن "العدالة والتنمية" أن أردوغان انزلق إلى متاهات الاصطفاف السياسي، فضلا عن اعتماده على شركاء متشددين، مثل حزب الحركة القومية، وانحرافه عن جوهره الحقيقي الذي جعل منه ظاهرة حزبية مغايرة عند تأسيسه، تجمع بين الورع الديني والديمقراطية واقتصاد السوق.
تصاعد التذمر في الجيش:
وفّر الانقلاب المزعوم في 2016 فرصة مواتية لإعادة هيكلة النظام العسكري، وإحكام سيطرة رجب طيب أردوغان عليه، وهو ما انعكس في تقديم 5 جنرالات في مراكز قيادية بالجيش التركي في 25 أغسطس/آب الماضي بطلبات للإحالة إلى التقاعد المبكر، احتجاجا على قرارات مجلس الشورى العسكري الذي عُقد برئاسة أردوغان في الثاني من الشهر نفسه.
حينها، انتهى اجتماع مجلس الشورى العسكري بإحالة معظم الضباط الذين تصدوا للانقلاب الفاشل في صيف 2016 إلى التقاعد، وتعيين آخرين من أهل الثقة، رغم عدم استيفائهم شروط الخبرة والأقدمية والكفاءة.
وشهدت المؤسسة العسكرية في السنوات الأخيرة تراجعا لمصلحة مؤسسة الرئاسة، فلم يعد الجيش كما كان منذ تأسيس الدولة التركية في عشرينيات القرن الماضي رافعة العلمانية الأساسية.
وفي سبيل ذلك، مضت حكومة حزب العدالة والتنمية في سياستها لفرض الصبغة الدينية على الجيش، وتجلى ذلك في رفع وزارة الدفاع التركية في 22 فبراير/شباط عام 2017 الحظر المفروض على ارتداء الحجاب في صفوف المجندات بالجيش، كما سُمح بدخول المحجبات من عائلات الجنود إلى دور ونوادي القوات المسلحة.
ويعد قرار وزارة الدفاع بإلغاء الحظر على الحجاب خطوة أولى من نوعها منذ إعلان قيام الجمهورية التركية في عام 1923.
وعلى صعيد ذي شأن، أدى فصل الآلاف من عناصر القوات المسلحة بتهمة الانتماء إلى جماعة "غولن"، وتعويضهم بأهل الثقة إلى تعزيز مساحات التحيزات والانقسامات داخل الجيش التركي.
وتبدو مساحة الانقسامات هذه مرشحة للزيادة بعدما طُمست هوية الجيش، وخلق ولاءات متعارضة داخل المؤسسة العسكرية، ما يوفر بيئة حاضنة لصراع داخلي محتمل، ربما يصعب السيطرة عليه، وقد يؤدي إلى تفكك الجيش، بل ربما انهيار الدولة التركية.
اتساع رقعة الاستقطاب السياسي:
كرّست سياسة العدالة والتنمية من حدة الانقسام المجتمعي، وأعادت إلى الأذهان الصراع العلماني - الديني، ودخلت تركيا طوال السنوات الثلاث في جدل عقيم حول الهوية بدلا من العمل على ترسيخ البرنامج.
خاصة بعد تصاعد الجدل بشأن عملية واسعة لتغيير مناهج التعليم الابتدائي في تركيا، تضمنت تقليص الحديث عن سيرة مصطفى كامل أتاتورك، مؤسس الدولة الحديثة.
كما تصاعدت فرص الانقسام في ظل سعي أردوغان إلى "هندسة" كامل الحياة العامة والخيارات الاستراتيجية التركية، وفقا لأهوائه، مستندا في ذلك إلى صلاحيات النظام الرئاسي شبه المطلق الذي يحميه من جميع أشكال الفروض والحساسيات التي كان يوجبها النظام البرلماني التقليدي السابق.
تردي الأوضاع الاقتصادية
هناك علاقة طردية بين الاستقرار السياسي والاجتماعي ومعدل النمو الاقتصادي في الدولة، فعدم الاستقرار السياسي الذي شهدته تركيا في السنوات الأخيرة كانت له تداعياته المباشرة على الوضع الاقتصادي.
وقد شهد عاما 2018 و2019 استمرارا في عجز الميزان التجاري، وتدهور قيمة العملة المحلية (الليرة)، حيث فقدت ثلث قيمتها أمام الدولار منذ أغسطس/آب 2018.
ووصل معدل التضخم لنحو 15.5%، إضافة إلى هجرة رؤوس الأموال الأجنبية بنسبة تصل إلى 40% بين بعض فئات المستثمرين الأجانب، ما دفع الاقتصاد نحو الركود للمرة الأولى منذ 10 سنوات.
على صعيد متصل، يعاني الاقتصاد التركي من ارتفاع الدين الخارجي، وذكرت وكالة "فيتش" في أغسطس/آب الماضي أن اقتصاد البلاد يحتاج إلى ما يقارب 230 مليار دولار من أجل التخلص من أزمة تضخم الدين الخارجي الخاصة به، سواء تعلق الأمر بالديون المستحقة بالفعل أو الديون الآجلة.
كما تعاني أيضا الشركات أزمة مديونية غير مسبوقة نتيجة استدانتها بالعملات الأجنبية، وقد صنفت الشركات التركية في عام 2018 بين أكثر الشركات استدانة من الأسواق الدولية، حيث طلبت العديد من الشركات المدينة إعادة جدولة ديونها، وتلقت البنوك حتى مايو/أيار الماضي ديون قيمتها 28 مليار دولار في أعقاب تراجع سعر صرف الليرة.
معاداة الأكراد:
يحمل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان توجها معاديا للأكراد، وهو ما ظهر في عزل عدد من رؤساء البلديات الكردية منذ أغسطس/آب الماضي، بعد فوزهم في الانتخابات المحلية التي شهدتها البلاد في مارس/آذار 2019، وحصد فيها حزب الشعوب الديمقراطي الكردي نسبة 4.2% من مجموع الأصوات.