تركيا قد ارتضت لنفسها أن تنشئ سياسات متحيزة وتدخلية ولذلك من الطبيعي أن تتأثر سمعتها أمام المواطن الخليجي والعربي.
تشط بعض الدول في سياساتها وترتيب أولوياتها، بحيث لا تحقق بعد ذلك الندية المطلوبة لأي حوار، خصوصاً حين تختار الهجوم المباغت والتعسفي من طرف واحد، مؤلفة موقفها من خيوط واهية، وهي أوهن من خيوط بيت العنكبوت.
لا يمكن، والحالة تلك، أن يمر التصريح الأخير لوزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو، مرور الكرام، وهو الذي حاول فيه زرع خلاف، أو اختلاف بين المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات. الوزير التركي، في هذا الطرح، واهم، ويبدو أن عدوى الجار المرتبك قد وصلت إلى أنقرة.
إننا أمام تركيا ارتضت لنفسها أن تنشئ سياسات متحيزة وتدخلية في شأن العالم العربي، ولذلك من الطبيعي أن تتأثر سمعة تركيا نتيجة لهذه السياسات، وأن ينظر إليها المواطن الخليجي والعربي بعين الريبة والحذر
يقول الوزير التركي إن العلاقات التركية مع السعودية جيدة، وإن السعودية تقدر الموقف «المحايد» لتركيا في أزمة قطر، مضيفاً أن الإمارات أخذت موقفاً مناكفاً للسياسة التركية في المنطقة، وحرفياً: «لا يمكن وضع الموقفين السعودي والإماراتي من تركيا في الكفة نفسها، فأبوظبي لديها موقف سلبي تجاه أنقرة».
وفي إشارة تعدت التلميح إلى التصريح «الخجول»، يورد الوزير التركي موقف أنقرة من المسألة المصرية، كواحد من أسباب الموقف الإماراتي من السياسة التركية. هذا السبب حقيقي ويرد في سياقه، ويجب أن يقال بصوت عال، بعيداً عن أي تردد، أو مجاملة. لا يمكن لدولة الإمارات، ولا لأية دولة مخلصة في الوطن العربي والعالم، تأييد تركيا في موقفها العدائي السافر ضد الوضع المصري الجديد الذي ارتضاه الشعب المصري لنفسه، وكان محل تقدير واحترام كل العالم، وتركيا بهذا السلوك إنما تسلك سياسة انتهازية محصورة في النظرة القصيرة، فلا يمكن أن تصل إلى أبعد من ذلك، ومستغرب حقاً عدم إدراك تركيا حتى الآن حساسية الوضع المصري في مجمل الوضع العربي.
عودة على بدء، لا بد هنا من تعليق واضح وصريح على تصريح الوزير، فالموقف التركي المحايد في أزمة قطر هو من أوهام الوزير أوغلو، ويدرك الجميع، كما يدرك هو وحكومته، أن تركيا ساندت الدوحة منذ اللحظات الأولى للأزمة المترتبة على دعم الدوحة للتطرف والإرهاب، وتدخلها في شؤون الغير، وإيوائها وتمويلها المعارضات الخليجية والمصرية، بما فيها المعارضات المسلحة. ساندت تركيا قطر منذ فجر الأزمة بشتى الوسائل، منتهكة سيادتها، وعائدة إليها بعد مئة سنة من خروجها وكأنها تحاول بذلك بعث شمس الإمبراطورية العثمانية الغاربة، ومنذ بدء الأزمة لم تعرف التصريحات التركية الرسمية والإعلامية الحياد أبداً، ولولا خوف أنقرة على مصالح تجارية كبيرة في السعودية والإمارات لشهدنا مزايدات مضاعفة، وتصريحات أكثر التهاباً.
لا يتكلم هنا عن وقائع قديمة أو منسية، فما حدث ويحدث في ملف الأزمة القطرية، لجميع جهات الأزمة، وتجاذباتها السياسية في المنطقة والعالم ليست استثناء، مسجل وموثق بالكلمة والصوت والصورة، ولا مجال فيه للادعاء واجتراح الأباطيل. من هنا فإن الموقف التركي غير المحايد، والمؤيد للتجاوزات القطرية تبعته استشارات سياسية متكررة، مقرونة بمحاولة بناء محور تركي قطري يضم «الخوان المسلمين» وصفهم الأصلح كما سماهم عباس محمود العقاد، مستشرفاً حوادث الزمن، ورأينا هذا المحور يناكف على ساحل البحر الأحمر، وفي ليبيا، وفي الصومال، وفي العداء غير المنطقي تجاه مصر، فعذراً معالي مولود شاويش أوغلو: المواطن الخليجي، أو العربي، ليس بالسذاجة التي تفترضها، ومحاولاتك شق الصف الخليجي والعربي باءت وتبوء بالفشل.
يتضح، هكذا، لدى كل قراءة لتصريح أوغلو، ولدى كل قراءة جديدة للنص التركي عموماً، أن السياسة التركية الراهنة تتعامل مع الواقع السياسي بفوقية توقعها تلقائياً في دائرة الخطأ، أما قول وزير الخارجية التركي إن دولة الإمارات هي التي تعادي السياسة التركية في المنطقة، فقول يجانبه الصواب تماماً. موقف الإمارات تجاه التدخل التركي الذي تحول وجوداً سافراً في الأراضي العراقية، أو السورية، أو محاولة تركيا تقويض استقرار مصر، أو التدخل في الشأن الخليجي الداخلي، موقف مبدئي أساسه أولوية السيادة العربية، فما تخطط له تركيا محلياً هو شأنها، وما اتصل بعلاقتها مع إيران وروسيا وأوروبا فهو شأنها الخاص الخالص كذلك، ولكن ليس من حقها أبداً هذا التغول الذي نراه في العالم العربي، ومنطق التوسع في البحر الأحمر، والقرن الإفريقي، منطق استعماري لا مكان له في هذه الحقبة من الزمن.
كأنما الذاكرة التركية مطوقة بالنسيان، وصولاً إلى الإعلام التركي المرتبط بالحكومة في تحريضه شبه اليومي على دولة الإمارات، وفي المقابل، تندر رؤية مثل هذا التهجم غير المنطقي أو المبرر في إعلامنا. إن تركيا فد ارتضت لنفسها أن تنشئ سياسات متحيزة وتدخلية في شأن العالم العربي، ولذلك من الطبيعي أن تتأثر سمعة تركيا نتيجة لهذه السياسات، وأن ينظر إليها المواطن الخليجي والعربي بعين الريبة والحذر.
ليس هذا أو ذاك ما ينتظره العرب من تركيا، وتصريح وزير الخارجية التركي، و«النصائح» المرتبكة التي وصلت تندرج في عنوان غير مرغوب، ولا تمثل التوجه الذي تتمناه دولة الإمارات، أو العرب، أما محاولات بث الفرقة بين سياسات الإمارات والسعودية (ومصر)، فلن تنجح. لا يمكن أن تنجح في عالم كشف النيات التركية مبكراً.
ولقد اتخذت دولة الإمارات منذ النشأة الأولى، ومنذ بداية علاقاتها مع العالم، سياسة وسطية متوازنة تتسم بالحكمة والعقل، وهذا هو عنوان دورها أمس، واليوم، وغدا، وهذا هو عنوان المحور الذي يتشكل الآن في منطقتنا، عبر تنسيق واتساق سياسات السعودية والإمارات، على وجه الخصوص.
الإمارات لا تعادي أحداً، لكنها لا تقبل عداء أحد.
نقلا عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة