لا يتوانى أردوغان عن انتهاج خطاب شعبوي ضد دول أوروبا من خلال استحضار ماضيها الاستعماري، بل والحديث عن النزعات النازية والفاشية
بعد أكثر من نصف قرن من الانتظار التركي على أبواب العضوية الأوروبية، تجد أنقرة نفسها في أزمة عميقة مع العواصم الأوروبية، بسبب السياسة التي يتبعها أردوغان، وتراكم الخلافات وتفجرها بين الجانبين.
فمن وحي ذاكرة فيينا التي استهدفها العثمانيون قبل 337 سنة، واستغلال أردوغان قضايا اللاجئين، ومسألة تحويل آيا صوفيا إلى مسجد، والدور الاستخباراتي والتجسسي التركي في الدول الأوروبية، والممارسات التركية في المتوسط، ثمة اعتقاد أوروبي بأن تركيا تزحف نحو دولهم وفق مخططات مدروسة.
فيما لا يتوانى أردوغان عن انتهاج خطاب شعبوي ضد الدول الأوروبية من خلال استحضار ماضيها الاستعماري، بل والحديث عن النزعات النازية والفاشية لدى أحفادها، ليبدو التاريخ ساكنا في العلاقات بين الجانبين، وليحضر الإرث العثماني على طاولة الخرائط الجديدة بطعم التنقيب عن الغاز في المتوسط.
ومع موعد نشر هذه المقالة، من المقرر أن تصدر المحكمة العليا التركية قرارها بشأن تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، بعد أن استغل أردوغان هذه القضية طويلا ولاسيما بعد أن قرأ سورة الفتح فيه قبل نحو شهر في الذكرى السنوية لدخول العثمانيين إليها، وتصريحات كثيرة أطلقها خلال السنوات الماضية هدف منها إلى زيادة شعبيته.
وتعامل مع قضية آيا صوفيا كما تعامل مع قضية فلسطين في إطار كسب التعاطف الشعبي، ففي الأساس هو من أفشل مشروع قرار سابق في البرلمان التركي بهذا الخصوص.
وإذ أنه استخدم قضية آيا صوفيا لإظهار التسامح وقبول الآخر في رسائل مدروسة للغرب تارة، وتارة أخرى بالقول إنه سيتخذ قرار تحويل آيا صوفيا إلى مسجد في الوقت المناسب وذلك في إطار سياسة الحفاظ على شعبيته في الداخل، وكسب المزيد من المتعاطفين معه بين التيارات المحافظة من قومية ودينية، وفي كل ذلك، حسابات أردوغان هي البقاء في السلطة أولا وأخيرا.
ربما نجح أردوغان حتى الآن في استغلال الانقسامات الأوروبية ولاسيما إزاء الأزمة الليبية.
ولعل نهجه هذا، هو ما دفع في وقت سابق بغيرت فليدرز زعيم حزب الحرية الهولندي إلى طرح إشكالية العلاقة التاريخية مع تركيا وقضية عضويتها في الاتحاد الأوروبي، عندما خاطب الأتراك قائلا : "إن حكومتكم تقوم بخداعكم بجعلكم تصدقون أنكم ستكونون عضوا في الاتحاد الأوروبي يوما، انسوا هذا، أنتم لستم ولن تكونوا أوروبيين أبدا"، وهو الموقف نفسه الذي بدأت المؤسسات الأوروبية تقولها علانية بشأن عدم قبول عضوية تركيا في الاتحاد، وسط تعالي الأصوات المطالبة بإخراجها من الحلف الأطلسي.
في الواقع، هذه الممارسات والتصريحات المتبادلة لا تعكس حقيقة اختلاف الهوية بين تركيا وأوروبا فحسب، وإنما تعكس تعاظم مخاوف الطرفين في ظل السياسة التي يتبعها أردوغان، وما أنتجت هذه السياسة من تيارات شعبوية متطرفة ومنظمات تؤمن بالعنف.
إذ أن العثمانية تقابل في أوروبا بصعود تيارات شعبوية وتعاظم لنزعة الإسلاموفوبيا وكره للأجانب بشكل عام، ومخاوف من ارتباط الجاليات المسلمة بأحزاب وايديولوجيات في بلدانهم الأصلية أكثر من الولاء لدولهم الجديدة، ولاسيما بعد انكشاف النشاط التجسسي التركي في معظم الدول الأوروبية.
وفي زحمة هذا المشهد المحفوف بالخوف والحذر والقلق، تشكل تطلعات أردوغان جسرا لاستيقاظ الذاكرة التاريخية لدى الأوروبيين وصراعهم التاريخي على الهوية مع العثمانيين.
ربما نجح أردوغان حتى الآن في استغلال الانقسامات الأوروبية ولاسيما إزاء الأزمة الليبية، إلا أن ممارسات أردوغان باتت تدفع بالأوروبيين إلى المزيد من الوحدة في مواجهة تركيا، إذ أن الذاكرة الجمعية والبعد الحضاري والخوف المشترك من طموحات أردوغان الجامحة، جميعها باتت عوامل مشتركة تشكل محددات المواقف الأوروبية من الأزمة مع تركيا بعد أن اتبعت الدول الأوروبية سياسة الهدوء والحذر طوال الفترة الماضية انطلاقا من المصالح الاقتصادية والاتفاقيات الثنائية والدولية.
وأيقظت سياسات أردوغان الحساسية الأوروبية إزاء طموحاته العثمانية، حيث باتت أوساط أوروبية واسعة ترى أن أردوغان بسياسته يستعيد علاقة تقف على إرث دموي منذ سقوط القسطنطينية عام 1453.
وانطلاقا من هذه الرؤية التاريخية المركبة فإن البنيان الحضاري الأوروبي يظل مسكونا بالخوف من النزعة العثمانية، واليوم مع صعود تنظيمات متطرفة من أمثال القاعدة وداعش والنصرة، وقيام هذه التنظيمات بتفجيرات داخل العديد من المدن الأوروبية ارتفعت الحساسية الأوروبية إزاء السياسة الأردوغانية، وبات الشك هو سيد الموقف حتى تجاه المواطنين الأوروبيين من أصل مسلم حيث يوجد ملايين الأتراك في أوروبا، وهو ما شكل ضربة للإسلام وصورته في أوروبا، وقد بات أردوغان مثالا للسخرية والشيطنة حيث نشرت وسائل إعلام أوروبية خلال الفترة الأخيرة صورا ورسومات تثير السخرية منه، وصلت إلى حد نشر مجلة سترن الألمانية صورة لأردوغان تحت عنوان المبتز، شبهته بالشيطان بعد أن تعمدت وضع الهلال الموجود في علم تركيا وكأنه قرون فوق رأسه، وهي صورة انتشرت بشكل واسع في مختلف مناطق العالم.
الثابت أن أوروبا باتت ترى أن تركيا الأردوغانية تعد خطرا على أمنها ومستقبلها، وأنه لم يعد من الممكن التفكير بقبول طلبها العضوية في الاتحاد الأوروبي، ولن يزيد قرار أردوغان تحويل آيا صوفيا إلى مسجد بعد أن كان كنيسة لمدة 916 عاما قبل أن يحوله السلطان محمد الثاني الملقب بالفاتح إلى مسجد عام 1453، ومن ثم جعله أتاتورك متحفا عام 1935 صنف في قائمة التراث العالمي.
لن يزيد هذا القرار سوى من قناعة أوروبا بأن أردوغان ليس سوى سلطان عثماني يريد إعادة أمجاد أجداده من السلاطين، وهو ما لن تقبل به أوروبا، ولعل اللهجة المتصاعدة للرئيس الفرنسي ماكرون في وجه أردوغان هذه الأيام تشكل مؤشرا لسياسة أوروبية مستقبلية في وجه عثمانية أرودغان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة