تركيا على طريق العودة.. "صفر أزمات" مع العرب والتصالح "استراتيجية"
تغييرات بالسياسة الخارجية لتركيا تستهدف العودة إلى استراتيجية "صفر أزمات" مع العرب في تحول يعقب عقدا متقلبا انتهى بعزلة إقليمية.
وعلى مدار العامين الماضيين، تجتهد أنقرة في محاولة القفز على الخلافات التي تسببت فيها سياساتها بالشرق الأوسط، بعد أحداث ما يسمى "الربيع العربي"، حين انقلبت سياساتها من "صفر مشكلات مع دول الجوار" إلى التدخل المباشر في شؤون دول المنطقة والتوجه التوسعي عبر التموضع عسكريا في سوريا وليبيا وتوسيع الوجود العسكري القائم في شمالي العراق، فضلا عن استعداء القوى الإقليمية الكبرى.
وبعد أزمات طاحنة خاصة على الصعيد الاقتصادي، وفي ظل تغيرات سياسية دولية تبلورت بشكل خاص مع قدوم الإدارة الأمريكية الجديدة التي تتبنى مواقف متشددة تجاه نظام الرئيس رجب طيب أردوغان، تسعى أنقرة إلى لملمة الأوراق المبعثرة في علاقاتها مع الشرق.
شروط العرب
"ليست لدينا تحيزات خفية أو معلنة، أو عداوات وحسابات غامضة ضد أي أحد. وبكل صدق ومودّة، ندعو الجميع للعمل معاً من أجل بناء مرحلة جديدة في إطار الاستقرار والأمان والعدل والاحترام".
مثلت هذه التصريحات الإيجابية للرئيس التركي مطلع العام الجاري رغبة واضحة وصريحة في تحسين العلاقات مع دول المنطقة وحتى الغرب، في محاولة لإنقاذ اقتصاد بلاده المتهاوي وتخفيف وطأة انتقاد المعارضة الداخلية لسياساته الخارجية.
ولاحقا، أطلقت أنقرة سيلاً من التصريحات حول رغبتها في فتح صفحة جديدة مع العرب وطي الخلافات وإنهاء التوتر مع مصر، كما بدأت محاولات لاختراق الجمود في العلاقات مع كل من السعودية والإمارات عبر علاقاتها الوثيقة مع قطر، حيث سعت تركيا لاستثمار المصالحة الخليجية في "قمة العلا" المنعقدة بالسعودية في يناير/ كانون الثاني الماضي.
وفي هذا السياق، يرى الباحث مصطفى صلاح المتخصص في الشؤون الدولية، في حديث لـ"العين الإخبارية"، أن هناك مجموعة من المؤشرات التي يمكن من خلالها تفسير تراجع السياسة التركية التصعيدية واتجاهها نحو تهدئة الأوضاع مع الدول العربية في الفترة الأخيرة، ولعل أهمها ما حققته الدول العربية من نجاحات تتعلق بحفظ الاستقرار الداخلي بعد أن تراجعت السياسة العربية بصورة كبيرة بمواجهة التدخلات الخارجية بعد أحداث 2011.
كما أن تمكن مصر ومعها السعودية والإمارات من قيادة وتوجيه السياسة العربية لمواجهة التدخلات الخارجية، ساهم في تعزيز الضغوط على تركيا لتحويل مسارات سياساتها التصعيدية من جانب، ومن جانب آخر إعلان رغبتها لفتح قنوات اتصال مع الدول العربية لتوفيق وجهات النظر.
فبعد 8 سنوات من القطيعة مع مصر منذ الإطاحة بحكم الإخوان الإرهابي حيث احتضنت أنقرة قيادات التنظيم الهاربين ووفرت لهم المأوى والمنصات الإعلامية للهجوم على مصر وحكومتها دون جدوى، فضلت تركيا إقامة علاقات مع القاهرة بعد أزمات طاحنة في شرق المتوسط تلاها رفض ضمها إلى "منتدى شرق المتوسط للغاز".
وحاول وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، في 11 يونيو/حزيران 2020، استمالة القاهرة للدخول في مفاوضات مع أنقرة حول أزمات شرق المتوسط، قائلا إن "الطريقة الأكثر عقلانية لعودة العلاقات التركية المصرية، تكون عبر الحوار والتعاون مع تركيا بدلا من تجاهلها".
وبعد تصريحات متناثرة عن حميمية العلاقة بين الشعبين المصري والتركي، خطبت أنقرة ود القيادة السياسية لمصر في مارس/آذار الماضي.
وحسب الباحث مصطفى صلاح، فإن تركيا أعلنت صراحة عن نيتها التشاور مع دول المنطقة لمناقشة الملفات الخلافية كما حدث بالمحادثات الاستكشافية مع مصر والتي شملت جولتين للوقوف حول طبيعة وحقيقه التوجهات التركية الأخيرة بعد أن اتخذت مجموعة من الخطوات في اتجاه إبداء حسن نيتها نحو التقارب مع الدول العربية، مثل تقييد حركة بعض التنظيمات المتطرفة التي تدعمها داخل الأراضي التركية وخارجها، بالإضافة إلى منع بعض القنوات الإعلامية التي تمولها وترعاها وتقوم أجندتها التحريرية على مواجهة الأنظمة العربية وخاصة من جانب جماعة الإخوان الإرهابية.
باتجاه "التطبيع"
في 5 و6 مايو/أيار الماضي، توجه وفد تركي برئاسة نائب وزير الخارجية سادات أونال، إلى القاهرة في أول زيارة من نوعها منذ 2013، وأجرى محادثات "استكشافية" مع مسؤولين مصريين بقيادة حمدي لوزا لبحث التقارب وتطبيع العلاقات.
ولم تكن القاهرة العاصمة الوحيدة التي سعت أنقرة لترميم علاقتها معها، فحسب الباحث التركي بالشؤون السياسية طه عودة أوغلو، فإن الإطار المتوقع أن يحكم المسار الجديد بين تركيا والإمارات ومصر والسعودية في المرحلة المقبلة سيكون قائما بالأساس على الأخذ بعين الاعتبار تقبل كلا الطرفين للاختلافات الموجودة في وجهات النظر، وحتى المواقف إزاء بعض القضايا الخلافية مقابل التركيز أكثر على الجانب والمصالح المشتركة بين البلدين.
وإزاء هذا الطرح، أكد الباحث أن "ذلك سيخلق فرصة أخرى للدفع بالعلاقات قدما وإعطائها الزخم المطلوب في المستقبل القريب"، متوقعا أن تشهد العلاقات التركية العربية مع مطلع العام الجديد صفحة جديدة.
وفي خطوة مكملة لخطوات تركيا التصالحية مع محيطها العربي عقب انتهاء الجولة الثانية من المفاوضات مع مصر، كشف المرصد السوري لحقوق الإنسان أن ألفي مرتزق من بين 7 آلاف عنصر بليبيا، صدرت لهم أوامر بإعادتهم إلى سوريا.
كما صدرت تعليمات تركية للقنوات المقربة من جماعة الإخوان الإرهابية التي تبث من تركيا شملت "تجنب الشأن السياسي وعدم الإشارة للرئيس والحكومة المصرية"، إلى جانب "التخلي عن أسلوب التحريض والإساءة للدولة المصرية".، وإيقاف عدة برامج تحريضية إخوانية.
كما طالبت السلطات التركية قيادات الإخوان هناك بالتزام الصمت وعدم الإدلاء بتصريحات سياسية، تلاه إعلان عدد من برامج تلك القنوات اعتذارها عن عدم البث تلك الليلة.
وآنذاك، قال وزير الخارجية التركي صراحة إن "مسيرة التطبيع مع مصر مستمرة، ووضعنا لأجل ذلك خارطة طريق".
وتهدف تركيا من وراء هذه السياسات إلى تسوية الكثير من الملفات المتشابكة مع الدول العربية في ظل الضغوط الكبيرة المفروضة عليها داخليا بسبب ارتفاع سعر صرف الليرة وزيادة مستويات التضخم وانتشار البطالة وتراجع شعبية الحزب الحاكم، وخارجيا بسبب الضغوط الأوروبية على تركيا بسبب سياساتها التصعيدية في منطقة شرق المتوسط وصعود إدارة أمريكية جديدة وجهت انتقادها للسياسة التركية على المستويين الداخلي والخارجي.
هذا ما أكده أيضا الباحث المصري محمد ربيع الديهي المتخصص في العلاقات الدولية، في حديث لـ"العين الإخبارية"، مشيرا إلى أن تركيا تسعى لتعديل سياستها مع العرب بخطوات ملموسة.
وقال الديهي إن فكرة تجميد أصول الإخوان؛ أموالهم وقنواتهم، جاءت في إطار محاوله التبرؤ والتخلص من جرائم الجماعة.
وفي هذا السياق، يرى حسن سلامة أستاذ علوم سياسية بجامعة القاهرة، أن التحركات على المستويين العربي والتركي أثمرت استجابة تركية متزنة وعاقلة للمطالب العربية بوقف الدعم للإخوان والتنظيمات العنيفة المتطرفة التي تثير التوترات في مناطق متعددة وتهدد استقرار وأمن العديد من الدول العربية.
ورجح سلامة، لـ"العين الإخبارية"، الوصول لاتفاق أوسع يسمح بخروج القوات الأجنبية التابعة لتركيا من ليبيا، والتهدئة في سوريا، بما يؤشر إلى إعادة هيكلة العلاقة بين تركيا وبين العديد من الدول العربية، وفتح مساحة من التفاعل المشترك لتحقيق تنمية اقتصادية للمنطقة.
وبحسب سلامة، فإن "ما نشهده بالتالي خلال الفترة المقبلة صورة من صور التقارب، لكن لا بد أن يكون هناك حذر شديد جديد بوجود ما نسميه ضرورة ظهور إجراءات بناء الثقة ومطلوب أن تكون هناك خطوات جادة لتحقيق التقارب بمشاريع مفيدة لكل الأطراف".
الخليج
بالتوازي مع مصر، بدأت أنقرة خطوات فعلية لتطبيع العلاقات مع دول الخليج العربي خاصة السعودية والإمارات، حيث أطلقت تصريحات ودية، بجانب اتصالات على مستويات رفيعة لفتح القنوات الدبلوماسية والعمل على بدء صفحة جديدة.
وفي تصريحات سابقة، أكد المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، رغبة أنقرة في تحسين العلاقات مع الرياض، كما أكد تشاووش أوغلو أن حالة من الزخم الإيجابي تسيطر حاليا على علاقات بلاده مع الإمارات، متوقعا عودة العلاقات إلى مسارها إذا استمر هذا الزخم.
وبالنسبة لدولة لإمارات على وجه الخصوص، تنوعت سياساتها وتمكنت من إدارة علاقاتها في الفترة الأخيرة بصورة أكثر مرونة في ظل وجود أطراف عديدة متباينة في أهدافها مع تركيا وقبرص واليونان، وهو الأمر الذي قد يسمح لها بلعب دور مستقبلي كبير في دعم الجهود العربية لتسوية هذه الأزمات العالقة مع تركيا عبر تنسيق الجهود العربية للوصول إلى صيغ مشتركة يمكن لها أن تحافظ على الأمن العربي.
وأكد اللواء محمد الغباشي مساعد رئيس حزب "حماة الوطن" المصري، أن التكامل الاقتصادي العسكري السياسي الذي كونته الإمارات ومصر والسعودية، شكل حائط صد لحماية المنطقة وأجبر القوى الإقليمية على إعادة التفكير في مسار سياستها الخارجية.
وقال الغباشي، في تصريح لـ"العين الإخبارية"، إن الموقف الإماراتي البارز بزيارة الشيخ عبد الله بن زايد وزير الخارجية والتعاون الدولي الإماراتي إلى سوريا، بهدف إعادتها إلى محيطها العربي، يقوي الجبهة العربية الداخلية ويرسم أمام تركيا صورة لسياسة عاقلة ومتزنة تشجعها وتدفعها إلى اتخاذ خطوات على طريق التصالح.
وفي ذات الإطار، يرى ناجي الشهاوي رئيس حزب "الجيل" المصري، أن تركيا استجابت بشكل جيد للتحركات العربية خاصة من جانب مصر والإمارات نحو مناخ تصالحي يساهم في استقرار المنطقة، والدفع باتجاه البناء والسلام كبديل استراتيجي للتنافس والصراع.
ومن النتائج التي قد تكون مثمرة لتركيا بشأن التطبيع وعودة العلاقات مع محيطها العربي ولا سيما مع الإمارات، كما يرى المحلل السياسي التركي فراس رضوان أوغلو، من مدخل اقتصادي وتجاري، هو إعادة البناء والقوة الاقتصاد التركي.
وقال رضوان أوغلو لـ"العين الإخبارية"، أن "هناك مصالح مشتركة عديدة بين البلدين بعيدا عن الأمور السياسية"، مؤكدا على أن التقارب بين الإمارات وتركيا سيدفع لمزيد من تحسن العلاقات مع مصر".
مستقبل العلاقات
وفي أغسطس/ آب الماضي، بحث الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان العلاقات الثنائية بين البلدين.
ووفق وكالة الأنباء الإماراتية "ناقش الجانبان، خلال اتصال هاتفي جرى بينهما السبل الكفيلة بتعزيزها وتطويرها بما يخدم المصالح المشتركة للبلدين وشعبيهما الصديقين، كما تبادل الجانبان وجهات النظر بشأن عدد من القضايا والملفات الدولية والإقليمية ذات الاهتمام المشترك.
ومنذ أشهر قريبة، استقبل أردوغان وفدا إماراتيا رفيع المستوى برئاسة الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان مستشار الأمن الوطني الإماراتي، في المجمع الرئاسي بأنقرة، وأعقب اللقاء تصريحات إيجابية.
تصريحات وأجواء إيجابية تفاعلت معها الإمارات بواقعية، حيث وصف الدكتور أنور محمد قرقاش، المستشار الدبلوماسي للشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الإمارات، لقاء الشيخ طحنون بن زايد مستشار الأمن الوطني الإماراتي مع الرئيس التركي، بأنه "تاريخي وإيجابي".
وكتب قرقاش، في حسابه عبر تويتر يقول: "اجتماع تاريخي وإيجابي للشيخ طحنون بن زايد مع فخامة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان".
وأشار قرقاش إلى أن "التعاون والشراكات الاقتصادية كان المحوّر الرئيسي للاجتماع"، مضيفا أن "الإمارات مستمرة في بناء الجسور وتوطيد العلاقات، وكما أن أولويات الازدهار والتنمية محرّك توجهنا الداخلي فهي أيضًا قاطرة سياستنا الخارجية".
وبدا أن تركيا تسعى للانفتاح على الدول الخليجية والعربية ذات الثقل السياسي والاقتصادي، ضمن سياق توافقي إقليمي عام لتبريد التوترات في المنطقة.
الدكتور طه عودة أوغلو، الباحث بالشأن التركي والعلاقات الدولية، يرى أن هناك "مؤشرات إيجابية في مسار العلاقات التركية الإماراتية".
وهو ما عزاه، في حديث لـ"العين الإخبارية"، إلى "الخطوات المتدرجة التي أقدمت عليها أنقرة خلال الأشهر الماضية بعدما طرقت باب القاهرة أولا لتطبيع العلاقات، ومن ثم تواصلت مع السعودية والإمارات والبحرين لرأب الصدع في علاقاتهم.
وأوضح الباحث التركي أن العلاقات التركية الإماراتية شهدت في الأسابيع الأخيرة الماضية تحولا كبيرا دشنتها الزيارة المهمة التي قام بها مستشار الأمن الوطني الإماراتي الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان إلى تركيا ولقاءه مع الرئيس أردوغان بعد قرابة الـ6 سنوات من تدهور العلاقات بين البلدين.
وإزاء ذلك، يرى الباحث بالشأن التركي أن القرار قد اتخذ في أنقرة بضرورة تطوير العلاقات مع الإمارات ومصر والسعودية والباقي مجرد تفاصيل تتعلق بالوقت والشكل والأدوات.
aXA6IDMuMTQ3Ljc2LjE4MyA= جزيرة ام اند امز