أزمة الاقتصاد التركي.. الأسباب والتأثيرات
يبدو المشهد الاقتصادي التركي قاتماً، وتأثيراته ستكون أكثر إيلاماً على البلاد في الفترة المقبلة، مع دخوله مرحلة الركود.
يزداد يوماً بعد يوم الوضع المأزوم للاقتصاد التركي، خاصة مع اتساع عجز الميزان التجاري، وارتفاع تكلفة واردات الطاقة بعد قرار الولايات المتحدة بإلغاء الإعفاءات الممنوحة لتركيا بمواصلة شراء النفط الإيراني إضافة إلى تدهور قيمة العملة المحلية، وصعود معدلات التضخم. كما تضررت البنوك التركية بشدة من ارتفاع حجم الديون المتعثرة والمشكوك في تحصيلها، وطلبت العديد من الشركات المدنية إعادة جدولة ديونها، وتلقت البنوك حتى أول مايو الجاري ديون قيمتها 28 مليار دولار في أعقاب تراجع سعر صرف الليرة.
في المقابل كان لقرار إعادة انتخابات إسطنبول تأثير سلبي بزيادة التحديات التي تواجه الاقتصاد في المرحلة الحالية، خاصة أنه يتزامن مع تزايد الاختلالات الاقتصادية في البلاد خلال الأشهر الماضية، واللافت في هذا السياق أن بعض الجهات الدولية أبدت مخاوف عديدة إزاء تأثير إقصاء مرشح حزب الشعب الجمهوري عن رئاسة بلدية إسطنبول التي فاز بها في 31 مارس/آذار الماضي على الأوضاع الاقتصادية، لا سيما أن قرار الإعادة يؤكد توجه أردوغان نحو حكم سلطوي يمسك فيه بمفاصل الدولة وأعصابها الحساسة.
في هذا السياق، أدى التراجع الملحوظ للاقتصاد التركي إلى إثارة شكوك ومخاوف المستثمرين، خاصة مع توجه تركيا نحو فرض ضريبة 0.1% على تعاملات العملات الأجنبية في خطوة ربما تزيد من إيراداتها، لكنها تمثل في الوقت ذاته إشارة خاطئة إلى الأسواق؛ لأنها ستؤدي حتماً إلى عزوف الأجانب عن الاستثمار في تركيا، كما دخل الاقتصاد التركي مرحلة الغموض بسبب سعي الرئيس أردوغان نحو إخضاع المؤسسات الاقتصادية، ومن بينها البنك المركزي، لسلطته خاصة مع انتقاداته المستمرة لإصرار البنك على رفع أسعار الفائدة.
ونتيجة لذلك، حذرت وكالة موديز المعنية بالتصنيفات الائتمانية من تراجع تصنيف تركيا، كما حذر بنك الاستثمار جولدمان ساكس من أن مزيدًا من التراجع سوف يؤدي إلى انخفاض القاعدة الرأسمالية للبنوك التركية.
أسباب الأزمة
اتجهت تركيا إلى سلسلة من الإجراءات العاجلة للتحايل على الأزمة الاقتصادية، من بينها رفع الفوائد على ودائع الليرة، والتوجه نحو إنشاء وكالة تصنيف ائتمان محلية، في ظل شكوك أنقرة المستمرة حيال وكالات التصنيف الائتماني الدولية التي خفضت التصنيف الائتماني، ونشرت مؤشرات سلبية حول الاقتصاد التركي.
كما ألقى الرئيس التركي باللائمة على الخارج، والترويج لنظرية المؤامرة، بوصف ما حدث بأنه: "السعي إلى طعن تركيا في الظهر"، بل حاول شحذ الطبقات التركية المحافظة والمؤدلجة، عندما قال "إذا كانوا يملكون دولارات، فنحن لنا شعبنا، ولدينا الحق، ولنا رحمة الله".
غير أن هذه الإجراءات، وسلوك أردوغان في تفسير الأزمة، ليست في محلها، فتراجع الاقتصاد ليس وليد اللحظة، ولا يعود إلى التوتر بين تركيا ومحيطها الإقليمي والدولي، لكنه يعود إلى عوامل عدة يمكن بيانها على النحو الآتي:
- التغييرات التي حدثت في شكل وبنية الإدارة السياسية والاقتصادية للبلاد، أثارت شكوكًا لدى العديد من الأوساط الاقتصادية من إمكانية تحسن الأداء الاقتصادي، وتعمقت المخاوف مع إلغاء نتائج انتخابات بلدية إسطنبول في 6 مايو الجاري، وهو ما ترتب عليه هبوط جديد في قيمة الليرة بحسب وكالة "بلومبرج" الأمريكية، التي قالت في تقرير لها إن العملة التركية انخفضت أكثر من 3% بعد إعلان قرار المحكمة، ما أدى إلى خسائر للأسواق الناشئة والوصول إلى أدنى مستوى في 7 أشهر.
كما أن ثمة شكوك لدى المستثمرين الأجانب من غياب مؤشرات قوية تكشف عن اتجاه أردوغان نحو تبني سياسات اقتصادية كلية جديدة من شأنها التخفيف من المشكلات الاقتصادية التي عانى منها الاقتصاد خلال الفترة الماضية.
- سوء الإدارة الاقتصادية: أدى استمرار تنامي الصراع بين الرئيس، والبنك المركزي، وإصرار أردوغان على التدخل في رسم السياسة النقدية، وكشف عن ذلك إصدار مرسوم قانوني عشية الانتخابات الرئاسية التي جرت في 24 يونيو 2018 يحدد مدة ولاية محافظ البنك المركزي بـ4 سنوات بدلاً من 5، وينص على أحقية الرئيس في تعيين محافظ البنك المركزي ونوابه وأعضاء لجنة السياسة النقدية ناهيك عن توجه أردوغان نحو تقليص المجموعة الاقتصادية، وقصرها على أهل الثقة بهدف تحقيق مزيد من السيطرة على مفاصل السياسة النقدية، وأصبح بيرات البيراق صهر أردوغان ووزير ماليته الشخص الأوسع نفوذاً في البلاد بعد أردوغان رغم فشله في تقديم أي حلول بمواجهة الأزمة الخانقة للاقتصاد التركي.
- تراجع احتياطي تركيا من العملة الأجنبية بسبب تهديدات أردوغان لمشتريها فضلاً عن قرار للحكومة التركية في مارس الماضي بزيادة الضريبة على فوائد الودائع بالعملات الأجنبية التي تزيد مدتها على عام واحد من 13 إلى 18%. وتجدر الإشارة إلى أن وكالة "موديز" الدولية للتصنيف الائتماني نبهت إلى زيادة تعرّض تركيا للمخاطر الخارجية، بسبب احتياجات الحكومة المتزايدة للتمويل الخارجي من جهة وارتفاع عجز الحساب الجاري من جهة أخرى. كما خفضت "موديز" التصنيف الائتماني السيادي لتركيا إلى "BA3" مع نظرة مستقبلية سلبية في أغسطس 2018.
- تفاقم العجز في الميزانية التركية، حيث تجاوزت ورادات تركيا صادرتها بنسبة وصلت 48% ناهيك عن انحدار الناتج الصناعي بنسبة 7%، وصعود معدل البطالة إلى 14%، وهو الأعلى منذ 10 سنوات.
- سياسات التركية الداخلية منذ الانقلاب الفاشل في صيف 2016، الذي عده الرئيس أردوغان "نعمة من الله"، حيث وفر بيئة مواتية لإقصاء معارضيه، وتفصيل المشهد السياسي على مقاس طموحاته الشخصية، والانفراد بالسلطة، وكانت بارزة هنا تدخلاته "غير المحسوبة في الاقتصاد، ومحاولته السيطرة على السياسة النقدية، وهو ما ترتب عليه هروب قطاع معتبر من المستثمرين من البلاد، وسط مخاوف من عدم قدرة الدولة على سداد التزاماتها لهم.
- الانخراط التركي السلبي في أزمات الإقليم، وفي مقدمها الأزمة السورية وملفاتها المعقدة، إضافة إلى تدخلاتها في شؤون دول الإقليم، وهو ما أدى إلى تراجع مناعتها الإقليمية مع عدد معتبر من دول المنطقة، وظهر ذلك في دعوة بعض الدول، وبخاصة السعودية إلى مقاطعة السياحة التركية، والتحذير من الاستثمار في القطاع العقاري التركي. وتقدر الاستثمارات الخليجية في تركيا بنحو 19 مليار دولار، الجانب الأكبر منها للرياض وأبوظبي.
- اتساع نطاق الخلاف بين تركيا وشركائها الاقتصاديين، وفي الصدارة منهم واشنطن بفعل تصاعد الخلاف بشأن صفقة s400، وإصرار تركيا على تنفيذها مع موسكو، وقد يؤدى التوتر الحالي إلى تقويض الثقة الدولية في الاقتصاد التركي، وربما تتزايد خسائره إذا ما نفذ ترامب تعهداته بتشديد العقوبات على تركيا، وهناك من المؤشرات الدالة على جدية الإدارة الأمريكية في مواصلة هذا الاتجاه، حيث وافقت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، في 26 يوليو/تموز 2018، على مشروع قانون يلزم الولايات المتحدة الأمريكية بمعارضة منح أي قروض لتركيا من جانب المؤسسات الدولية مثل مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي ناهيك عن تقديم مشروع قانون في الكونجرس يمنع تسليم تركيا طائرات f35، التي تشارك تركيا في برامج إنتاجها. ولم تقتصر إجراءات واشنطن على ما سبق، فقد أنهت في مارس الماضي امتيازات تجارية بقيمة 1,7 مليار دولار في إطار نظام "الأفضليات" التجاري، الذي يسمح بإعفاء تركيا من الرسوم الجمركية فيما يتعلق بنحو ألفي منتج من المنتجات الصناعية، والمنسوجات الواردة إلى الولايات المتحدة.
تأثيرات محتملة
يبدو المشهد الاقتصادي التركي قاتماً، وتأثيراته ستكون أكثر إيلاماً على البلاد في القترة المقبلة، مع دخوله مرحلة الركود بعد سلسلة من التداعيات التي تتعلق بالتضخم واستمرار انخفاض قيمة الليرة وما تبع ذلك من متغيرات وتطورات. وتتمثل أهم التأثيرات فيما يلي:
- زيادة مخاطر الدين الخارجي، خاصة مع بلوغها مستوى قياسيًا قدره 453.2 مليار دولار بنهاية العام 2017 (ما يوازي 53.3% من الناتج المحلي) مقابل 408,195 مليار دولار في عام 2016 (ما يوازي 47.2% من الناتج المحلي). ونتيجة لهذه الأوضاع، اتجهت وكالة "موديز" إلى وضع تصنيف تركيا تحت المراقبة بعد أن خفضت تصنيفها، في مؤشر على عدم نجاح السياسات الاقتصادية في معالجة الأزمة الاقتصادية.
- في ظل توتر العلاقة بين أنقرة وواشنطن، قد تتجه الأخيرة إلى إعداد قائمة من شخصيات وشركات تركية لفرض عقوبات عليها، وذلك على غرار العقوبات الأمريكية المفروضة على مؤسسات وشركات وشخصيات روسية. ويزداد هذا التوجه مع توجه تركيا نحو رفض قرار إدارة ترامب تصنيف الحرس الثوري الإيراني "منظمة إرهابية، ورفضها العقوبات المفروضة على طهران.
والأرجح أنه في ظل التصعيد المحتمل بين أنقرة وواشنطن، من المحتمل ألا تقتصر خسائر الاقتصاد التركي على تراجع فرص المبادلات التجارية مع واشنطن؛ إذ قد تتعثر العديد من الشركات التركية وتتراجع قدرتها على الاقتراض دوليًا، بجانب اضطراب الأسواق المالية التركية وانخفاض عملتها.
- انعكس التوتر بين تركيا والاتحاد الأوروبي على واقع الاقتصاد التركي، باعتبار أن التوتر في العلاقات بين الطرفين أدى إلى تراجع المساعدات التي تقدمها أوروبا إلى تركيا، حيث قررت المفوضية الأوروبية، في 27 سبتمبر/أيلول 2018، تخفيض مساعداتها إلى أنقرة، بسبب عدم إحرازها أي تقدم في الوفاء بالمعايير المطلوبة للانضمام إلى الاتحاد، ووصلت نسبة التخفيض إلى 40% خلال الفترة من 2018 و2020.
- أدت الخيارات التركية الصعبة والإجراءات التعسفية للتحايل على أزمتها الاقتصادية، إلى استنزافها جانب معتبر من استثماراتها الخارجية في السندات وأذون الخزانة الأمريكية، التي تراجعت لأدنى مستوى في 12 عاما.
- تراجع الاستثمار الأجنبي في تركيا، وبدا في توجه بعض الدول الأوروبية نحو تقليص استثماراتها في تركيا، وبخاصة ألمانيا التي جمدت مؤقتا جميع الطلبات التي تقدمت بها تركيا للمشاركة في مشاريع الأسلحة، وتجدر الإشارة إلى أن حصة الاستثمارات الألمانية المتدفقة إلى تركيا تراوحت بين 2010–2016 نحو 6,4% من مجمل الاستثمارات الأجنبية في تركيا، بواقع 8 مليارات و851 مليون دولار.
- أدى عدم استقرار سعر صرف العملة التركية، إلى زيادة أسعار المنتجات وتكاليف الواردات لأعلى نسبة لها منذ أكتوبر/تشرين الأول 2018، إلى جانب الضغوط التضخمية واستمرار التباطؤ بقطاع الإنتاج وتسريح نسبة كبيرة من العمالة.
- تعقيد حل أزمة الديون المتعثرة: تشكل الديون المتعثرة تحديا لتركيا، فعلى الرغم من أن البنوك التركية قدّمت ما مجموعه 50 مليار دولار كتمويل ائتماني لهذا القطاع في السنوات الأخيرة، فإن نسبة الديون المتعثرة لا تزال دائماً مثار جدل في ظل العجز عن تقديم حلول جذرية لها.
- يمر الاقتصاد التركي بأسوأ مرحلة له، حيث سُجل في عام 2018 أحد أسوأ 5 اقتصادات في العالم سواءً من ناحية التضخم أو انخفاض العملة أو جذب الاستثمارات والحركة التجارية والانكماش الحاصل في الاقتصاد.
القصد أن المشكلات الاقتصادية التي تواجهها تركيا حالياً، يرشح استمرارها في المدى المنظور والمتوسط، بالنظر إلى تركيز السلطات النقدية التركية على إجراءات قصيرة الأجل على حساب سياسة نقدية فعالة وإصلاح اقتصادي جوهري، وهو ما أدى إلى إخفاق الحكومة في علاج تفاقم معدل التضخم وتراجع الليرة. في المقابل ثمة تراجع ملحوظ في ثقة المؤسسات الدولية في الاقتصاد التركي، وبدا ذلك في تحذير صندوق النقد، في تقرير له حول تركيا في فبراير الماضي، من مخاطر يواجهها الاقتصاد يتمثل أهمها في ارتفاع معدل التضخم نتيجة عدم رفع سعر الفائدة.
ولذلك، فإنه مع استمرار تراجع سعر صرف الليرة مقابل الدولار، ستتضح أكثر مواطن الخلل في الاقتصاد التركي، بالنظر إلى ارتفاع تكلفة الديون الخارجية، والتراجع النسبي في جاذبية الاستثمار على خلفية التوتر في علاقات تركيا مع محيطها الإقليمي والدولي.
aXA6IDE4LjExOC4xNDQuMTA5IA== جزيرة ام اند امز