خسائر تركيا من صفقة "إس 400"
الارتباك لا يزال هو العنوان الأبرز في تركيا بعد الإنذار الأمريكي الأخير بإلغاء صفقة صواريخ إس 400 الروسية قبل نهاية يوليو/تموز المقبل.
تفاقم التوتر بين أنقرة وواشنطن، ووصلت العلاقة بين البلدين، من دون مبالغة، إلى تصعيد غير مسبوق في ظل سعي الإدارة الأمريكية إلى منع تركيا من تمرير صفقة منظومة الدفاع الصاروخية إس 400 التي وقعتها مع موسكو نهاية عام 2017.
فقد اتخذت الإدارة الأمريكية، في الآونة الأخيرة، مجموعة من التدابير لمنع إتمام الصفقة، منها وقف تدريب الطيارين الأتراك على مقاتلات f35 بقاعدة لوك الجوية بولاية أريزونا. ويعد برنامج مقاتلات F35 الذي أطلق في التسعينيات من القرن الماضي، أغلى برنامج في تاريخ الجيش الأمريكي، ويقدر البنتاغون تكلفته بنحو 400 مليار دولار، بهدف تصنيع ما يقرب من 2500 طائرة في العقود القادمة.
كما لوحت الإدارة الأمريكية بوقف المشتريات التركية للطائرة المقاتلة F35، ومنعها مستقبلاً من الحصول على منظومة "باتريوت" الدفاعية الأمريكية بجانب إمهال البنتاجون تركيا في يونيو/حزيران الجاري شهرين لإلغاء صفقة الصواريخ الروسية.
لكن يبدو أن تركيا تسعى لإتمام شراء منظومة إس 400، ففي مطلع يونيو/حزيران الجاري، قال الرئيس التركي إنه "ما من مجال لأن تنسحب تركيا من اتفاقها مع موسكو"، ومن جانبه أكد وزير الدفاع التركي خلوصي أكار في 22 مايو الماضي أن عسكريين أتراكا يتلقون تدريبا في روسيا على استخدام s400، وأن عسكريين روس قد يذهبون إلى تركيا.
التوجه التركي نحو تمرير الصفقة التي يُنتظر استلام الدفعة الأولى منها في يوليو/تموز المقبل أدى إلى تصاعد التحذيرات من جانب الإدارة الأمريكية، التي أكدت أن الصفقة حال تمريرها قد تؤدي إلى توترات واضطرابات في مسارات العلاقة بين أنقرة وواشنطن، بالإضافة إلى أن عدم إمكانية التنبؤ بردود أفعال الرئيس الأمريكي ترامب، خصوصا أن التوتر في العلاقات بين البلدين يتجاوز الخلاف على صفقة s400 لما هو أبعد.
فهناك على سبيل المثال تضارب الاستراتيجية المتعلقة بسوريا، حيث لم تستجب الولايات المتحدة للمطالب التركية الخاصة بإقامة منطقة آمنة في شمال البلاد، وتواصل دعمها للأكراد السوريين. كما تتباين رؤى البلدين بشأن العقوبات على إيران ناهيك عن أن الولايات المتحدة لم تبدِ ارتياحاً إزاء سياسات تركيا المتشددة حيال قوى المعارضة في الداخل ووسائل الإعلام والناشطين الأتراك الذين تعرضوا للقمع على خلفية مواقفهم السياسية، أو توجهاتهم الأيديولوجية، أو علاقاتهم التنظيمية بجماعة "الخدمة" التي تتهمها أنقرة بتدبير الانقلاب الفاشل في صيف 2016.
قلق أمريكي
دخل التوتر مناخ الشحن بين واشنطن وأنقرة بسبب توجه تركيا نحو استيراد منظومة الدفاع الصاروخية S400 الروسية التي يتم توظيفها، بحسب المسؤولين الأمريكيين، في كشف أسرار تكنولوجيا الأسلحة الأمريكية الموجودة في نطاق دول حلف الناتو، إلى جانب تحفّظها على تغلغل موسكو في منطقة الشرق الأوسط.
وفي الوقت الذي تعد واشنطن S400 تهديداً غير مقبول على الولايات المتحدة، فإنها تشير إلى أن مقاتلات f35 صُممت للعمل بشكل متوافق مع الأنظمة العسكرية لحلف الناتو، بما في ذلك الدفاعات المضادة للصواريخ، وهذا ما يثير مخاوف إدارة ترامب من أن روسيا قد تضبط قدرات منظومتها ضد التحالف الغربي من خلال المعلومات التي تحصل عليها في تركيا.
في المقابل، فإن نظام s400 الصاروخي أحد أكثر الأنظمة تطوّراً في العالم، ويستطيع تدمير أهداف تتحرك بسرعة 5 كيلومترات بالثانية، ومن ضمنها الطائرات والصواريخ ذاتيّة الدفع متوسطة المدى والصواريخ المجنّحة. كما أن واشنطن تدرك أن امتلاك تركيا منظومة s400، قد يفتح الباب أمام دول أخرى داخل حلف الناتو للتعاون العسكري مع موسكو.
ويزداد الرفض الأمريكي لتسليم تركيا S 400، في ظل اتساع نطاق الخلافات بين موسكو وواشنطن، على خلفية اتهام الأخيرة لموسكو بخرق اتفاقية الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية "ستارت3"، و"اتفاقية الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى" ناهيك عن التباين في التعامل مع بعض الملفات الأخرى، في الصدارة منها الخلاف بشأن إدارة الأزمة السورية ناهيك عن قلق واشنطن مما تعده انتهاكا روسيا لسيادة دول غربية، وتطبيق أساليب عدائية ضد الدول الأوروبية، وهو ما ينقل التوتر في العلاقات الثنائية الأمريكية -التركية إلى مستوى آخر أكثر تعقيدًا يتعلق بالسياسات الدفاعية المتعارضة للأطراف المختلفة.
والأرجح أن هذه المزايا عالية التقنية لمنظومة S400 بالإضافة إلى المخاوف الأمريكية من تمدد النفوذ الروسي في دول الناتو، يقف وراء تحفّظ واشنطن على وصول هذه المنظومة إلى تركيا. لذا فمن المتوقع أن تشهد العلاقات التركية الأمريكية تأزماً كبيراً، ليس فقط فيما يخص عدم تسليم طائرات F-35 إلى تركيا، ولكن أيضًا في العديد من مجالات الدفاع الأخرى. وقد يمتد التأزم ليطال العلاقات السياسية والاقتصادية كذلك.
خطوات عقابية
اتخذت الإدارة الأمريكية في الآونة الأخيرة مجموعة من الخطوات لتضييق الخناق على أنقرة لإلغاء صفقة S400، من بينها مشروع القانون الذي قدمه في 29 مارس/آذار 2019 أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، بهدف منع بيع المقاتلات الهجومية من طراز F35، من إنتاج شركة لوكهيد مارتن، إلى تركيا رداً على الصفقة الروسية.
وبالتوازي مع ذلك، حذرت المؤسسات الأمريكية المعنية من مخاطر إبرام صفقة S400، فمن جهته قال وزير الدفاع الأمريكي بالوكالة باتريك شاناهان في رسالة إلى نظيره التركي خلوصي أكار في 8 يونيو/حزيران الجاري، "في الوقت الذي نسعى فيه إلى الحفاظ على علاقتنا القيمة، فإن تركيا لن تحصل على طائرة f35 إذا تسلمت صواريخ S400".
كما هددت الخارجية الأمريكية في مارس/آذار 2019 تركيا بفرض عقوبات مختلفة. وقال وبرت بلادينو، نائب المتحدث باسم الخارجية الأمريكية "لقد حذرنا بوضوح من أنه في حال شراء تركيا لمنظومة "S400 وأضاف أن هذا "سيكون سبباً في إعادة تقييم مشاركة تركيا في برنامج إنتاج الطائرة F35، ويهدد احتمال تسليم أسلحة أخرى في المستقبل لتركيا ناهيك عن أن كل المؤسسات الخاصة، والأشخاص الضالعين في شراء منظومة S400، قد يواجهون عقوبات محتملة في إطار قانون مكافحة أعداء أمريكا بالعقوبات (CAATSA)".
وانصرفت خطوة ثالثة إلى فرض عقوبات اقتصادية غير مباشرة، وذلك برفع تركيا من نظام الأفضليات التجارية في مارس/آذار 2019، وتضمن القرار وقف امتيازات تجارية بقيمة 1,7 مليار دولار في إطار نظام "الأفضليات" التجاري، الذي يسمح بإعفاء تركيا من الرسوم الجمركية فيما يتعلق بنحو ألفي منتج من المنتجات الصناعية، والمنسوجات الواردة إلى الولايات المتحدة.
وتزامنت الخطوة الأمريكية، مع تراجع لا تخطئه عين للاقتصاد التركي، إذ وصل معدل التضخم لنحو 20% بينما تجاوز معدل البطالة حاجز 13% إضافة إلى توقع البنك الدولي باستمرار تراجع النمو الاقتصادي التركي، خلال العام الحالي، تأثراً بالضغوط المالية وتراجع انهيار سعر الليرة، ليسجل "سالب 2,6%".
وتجدر الإشارة إلى أن الاقتصاد التركي دخل في ركود للمرة الأولى منذ عام 2009، إثر تسجيل انكماش لفصلين متتاليين نهاية عام 2018، وذلك بعد أن شهدت البلاد اضطرابات على مدى أشهر بفعل تدهور سعر صرف الليرة، وتوتر العلاقة مع واشنطن.
التعقيدات الراهنة في الأزمة التركية-الأميركية، قد تتجاوز الخسائر الاقتصادية وتمتد إلى الخسائر والمميزات العسكرية الدفاعية واللوجستية التي تتمتع بها أنقرة، من بينها البحث عن مقر مركزي جديد لصيانة المقاتلة f35، بعد أن كان من المقرر أن تكون تركيا هي مركز صيانة المقاتلة الرئيسي. إلى جانب أن الولايات المتحدة تفكر جدياً في نقل قاعدة إنجرليك الجوية إلى خارج تركيا. وإذا كانت قاعدة إنجيرليك التركية تشكل مركزًا حيويًا للتحركات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط، فإنها في المقابل تمنح أنقرة ميزات عسكرية ولوجستية في محيطها الإقليمي.
ارتباك تركي
تكثف تركيا البحث عن مخرج من ورطة صواريخ S400 الروسية، رغم تأكيد أردوغان في العلن تمسكه بها عبر خطابات دعائية وإعلامية تلقى ترحيباً نسبياً في الشارع التركي الذي يسعى إلى تجنيده في معركة إعادة انتخابات إسطنبول المقرر لها 23 يونيو/حزيران الجاري.
والأرجح أن الارتباك لا يزال هو العنوان الأبرز في تركيا بعد الإنذار الأمريكي الأخير لتركيا بإلغاء صفقة صواريخ S400 الروسية قبل نهاية يوليو/تموز المقبل أو انتظار عقوبات.
وتخشى تركيا التراجع بشكل مفاجئ وغير مبرر عن الصفقة، وهو ما قد ينتج عنه انهيار العلاقة مع موسكو التي تمسك بمفاصل الأزمة السورية، ويمكنها إرباك الحسابات التركية في سوريا. في المقابل تدرك تركيا أن التمسك بالصفقة يعني استمرار تراجع مناعتها دوليا، ويعجل بتصعيد كارثي في العلاقة مع واشنطن التي تبدي إصراراً حال إتمام صفقة S400 على فرض عقوبات اقتصادية مؤلمة على أنقرة جنباً إلى جنب تهميشها سياسيا وعسكريا داخل الحلف الأطلسي.
في هذا السياق العام تسعى تركيا للبحث عن خيارات للخروج من أزمة صفقة الصواريخ الروسية، لاسيما أن إدارة ترامب قد تذهب بعيداً في معاقبة تركيا، وتتمثل أولى الخيارات في السعي لإقناع الإدارة الأمريكية بتشكيل لجنة مشتركة لفحص الثغرات الأمنية في منظومة حلف الناتو الدفاعية ومقاتلات F35 قبل تسلمها المنظومة الروسية، وهو ما قد يوفر مبرراً لتركيا في تخليها عن صفقة S400 من دون الدخول في علاقة صعبة مع الكرملين.
ويرتبط الخيار الثاني بمراهنة تركيا على الحوار لاحتواء الأزمة، وبدا ذلك في إعلان وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، في 15 مارس/آذار 2019، أن هناك محاولة تركية للبحث عن طرق فنية للجمع بين المنظومة الروسية والمقاتلة F35، وبالتالي توفير مسعى لتقديم ضمانات تركية لاحتواء المخاوف الأمريكية من تسرب المعلومات الفنية الخاصة بالمقاتلة، وهو أمر وإن كان مرفوضًا من جانب واشنطن، إلا أنه يكشف عن سعي أنقرة لتهدئة التوتر مع واشنطن، وتجنب عقوبات ستكون أكثر إيلاماً على أعصاب تركيا.
خلف ما سبق، فإن تركيا قد تلجأ إلى السبل القانونية للحصول على مقاتلات f35، خاصة أنها استثمرت نحو مليار دولار في برنامج إنتاج المقاتلة، وبالتالي فإنّ أي قرار أمريكي يمنع وصول المقاتلات سيمثّل خرقا للعقد. غير أن واشنطن أبدت استعدادها لتعويض أنقرة ماديا.
ويرتبط الخيار الرابع بتوجه تركيا نحو استيراد منظومة الدفاع الروسية، وتعويض المقاتلة f35 بالمقاتلة سوخوى 57 الروسية، رغم أنها تعي أن مميزاتها القتالية أقل من نظيرتها الأمريكية التي لديها قدرة فائقة على التخفي من أنظمة الرادار.
إجمالا، يمكن القول إن تركيا في مأزق كبير، ومع قرب استلام تركيا الدفعة الأولى من منظومة الصواريخ s400 في يوليو/تموز المقبل، فإنها تسعى للبحث عن مخرج للتراجع عن الصفقة من دون خسارة موسكو، خاصة أنها تعلم أن إدارة ترامب جادة في فرض مزيد من العقوبات على تركيا حال الحصول على S400.
والأرجح أن ثمة متغيرات عديدة بخلاف صفقة الصواريخ الروسية تغري واشنطن بفرض عقوبات على تركيا أكثر اتساعاً في رقعتها وفعاليتها، تتمثل في الخلاف حيال العديد من القضايا والملفات المحلية والإقليمية، في الصدارة منها الرفض التركي للعقوبات الأمريكية على إيران، والتوجه نحو محور موسكو- طهران بشأن إدارة الأزمة السورية.
aXA6IDE4LjIxNy4xMzIuMTA3IA== جزيرة ام اند امز