هذه العمليات العسكرية ليس لها سوى مبرر واحد، هو فرض الهيمنة التركية على المناطق الحدودية في الأراضي السورية
العدوان التركي الأخير على الأراضي السورية لاقتطاع شريط حدودي يمتد بطول الحدود السورية مع تركيا وبعمق 32 كيلومترا لإقامة "منطقة آمنة" خاضعة للهيمنة التركية، والذي توقف باتفاق تركي-أمريكي يميل لمصلحة الأتراك وأهدافهم، ليس الأول من نوعه ولن يكون الأخير إذا استمرت حالة الضعف والانكشاف الأمني العربي. فالممارسات التركية المنتهكة لسيادة الدول العربية، ولاسيما دول الجوار التركي، العراق وسوريا، تجري منذ سنوات طويلة تحت مبررات ومزاعم مختلفة لا تخفي حقيقة الأطماع التركية في الأراضي العربية، ولكن حدتها تزداد وطأة وخطورة في الأوقات التي يزداد فيها الضعف والانقسام العربي.
هناك حاجة ضرورية لتعزيز هذا المحور من خلال تجميع الصفوف العربية، وتوحيد المواقف والسياسات العربية ليس فقط في مواجهة محاولات الهيمنة الخارجية، وإنما أيضاً في التصدي للقوى والجماعات التي تنخر في منظومة الأمن القومي العربي من الداخل وتجعله أكثر انكشافاً أمام محاولات الهيمنة الخارجية.
إن من يتابع الموقف التركي تجاه العالم العربي منذ الاضطرابات التي شهدتها المنطقة العربية عام 2011 تحت شعار ما يسمى "الربيع العربي"، سيلاحظ بسهولة أن التهديد التركي للأمن القومي العربي لا يقل خطورة عن نظيره الإيراني، بل يكاد يكون أخطر. فكلتا الدولتين لديها مشروعها الإقليمي الذي يهدف إلى اختراق منظومة الأمن القومي العربي وسيادة الدول العربية لتحقيق مصالحها وفرض هيمنتها الإقليمية على مقدرات الدول العربية وثرواتها، الفرق الوحيد هو في طبيعة هذا المشروع الإقليمي؛ فإيران لديها مشروع طائفي يقوم على اختراق الدول العربية من بوابة الجماعات الطائفية الموالية لها، وهو المشروع الذي حقق اختراقات خطيرة في دول مثل العراق ولبنان وسوريا وأخيراً اليمن، قبل صحوة الحزم العربية التي قادتها المملكة العربية السعودية الشقيقة للتصدي لهذا المشروع الطائفي.
أما تركيا فمشروعها أيديولوجي قائم على استغلال جماعات الإسلام السياسي المتطرفة، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين بفروعها المختلفة، كمدخل لاختراق الأمن العربي وتهديد استقرار وسيادة الدول العربية، وهو ما رأيناه واضحاً في الدعم التركي للإخوان المسلمين في مصر بعد أحداث عام 2011، والعداء التركي اللافت للنظر لمصر عقب إطاحتها بجماعة الإخوان المسلمين من الحكم بعد عام كارثي من الحكم لهذا البلد العربي الكبير.
كما رأينا ذلك واضحاً في الدعم التركي للجماعات الدينية المتطرفة في سوريا، مثل جبهة النصرة وجماعة الإخوان المسلمين السورية وحتى التنظيمات الأشد تطرفا كداعش وغيرها؛ حيث تعددت التقارير التي تتحدث عن دور تركيا كبوابة عبور للمتطرفين من كل أرجاء العالم للدخول إلى الأراضي السورية بحجة قتال النظام السوري. وتكرر الأمر نفسه في ليبيا التي تقدم أنقرة دعما كبيراً ومعلناً للمليشيات المتطرفة فيها، وتحرص على تزويدها بالأسلحة التي تزيد الوضع اشتعالاً في هذا البلد العربي.
لكن الهجمة التركية على العالم العربي، ومحاولات أنقرة المستمرة العبث بمنظومة الأمن القومي العربي وصلت ذروتها بتدخلها العسكري الأخير في شمال سوريا والذي وحد دول العالم المختلفة ضدها؛ لأنه لم يستهدف فقط تنفيذ بعض العمليات العسكرية هنا أو هناك ضد عناصر حزب العمال الكردستاني الذين تصفه أنقرة بالإرهابي أو فرض الوجود العسكري التركي على مناطق صغيرة، وإنما استهدف هذه المرة قضم مساحات كبيرة من الأراضي السورية وفرض السيطرة عليها بزعم إقامة "منطقة آمنة" لإعادة توطين اللاجئين السوريين فيها، وهو مبرر لم يلق قبولاً لدى أي من القوى الإقليمية والدولية؛ لأن المبرر الإنساني الذي تستند إليه أنقرة لإقامة منطقة آمنة لتوفير الحماية للاجئين السوريين، يقابله عمليات عسكرية تركية تركت الكثير من المآسي الإنسانية لدى السوريين الذين يقطنون هذه المناطق الحدودية، كما أن المبرر الخاص بإبعاد من تصفهم أنقرة بالإرهابيين الأكراد، قابلته مخاوف جدية من أن تؤدي هذه العمليات العسكرية التركية إلى إطلاق سراح المئات وربما الآلاف من العناصر الإرهابية المتطرفة التي تحتجزها القوات الكردية، لتعيد من جديد خطر إحياء تنظيم داعش الإرهابي، بعد أن كان قد تم إعلان القضاء عليه.
إن هذه العمليات العسكرية ليس لها سوى مبرر واحد، هو فرض الهيمنة التركية على المناطق الحدودية في الأراضي السورية، وتعزيز الاختراق التركي لأمن وسيادة هذا البلد العربي ولمنظومة الأمن العربي ككل، وهو أمر لا يمكن مواصلة الصمت تجاهه، ومن هنا جاءت دعوة معالي الدكتور أنور قرقاش، وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، لإقامة محور اعتدال عربي لتعزيز الأمن القومي العربي وتحصين الدول العربية ضد محاولات اختراقها والعبث بأمنها، ولاسيما أن هذه الهجمة التركية على الأمن القومي العربي تأتي بتنسيق وتعاون تامّين مع دولة عربية يفترض أنها تشكل جزءا من منظومة الأمن القومي العربي لكنها، للأسف الشديد، أصبحت مرتهنة بسيادتها وقرارها للسلطان العثماني الجديد في أنقرة.
والدعوة الإماراتية إلى تعزيز منظومة الأمن العربي المشترك ليست طارئة بطبيعة الحال، ولا مرتبطة بالاختراقات الإقليمية الأخيرة لهذه المنظومة، فسياسة الإمارات كانت على الدوام هي الدعوة إلى توحيد الصفوف العربية وتوحيد المواقف والسياسات التي تعزز الأمنين العربي والإقليمي، وهي السياسة التي وضع أسسها المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، ورسخها قولاً وفعلاً. كما يلحظ أي متابع لأوضاع المنطقة العربية منذ اضطرابات العام 2011، الدور المهم والحاسم الذي لعبته دولة الإمارات العربية المتحدة بالتعاون والتنسيق مع المملكة العربية السعودية، ومصر بعد استعادتها من قبضة تنظيم الإخوان المسلمين عام 2013، في إعادة إحياء محور الاعتدال العربي وتجميع صفوفه ومصادر قوته للتصدي لموجة الفوضى الشاملة التي هزت المنطقة العربية وكادت توردها موارد الهلاك.
ليس هناك خلاف حول أهمية الدور الحاسم الذي لعبه محور الاعتدال العربي الإماراتي- السعودي- المصري بالتعاون مع الكثير من دول الاعتدال العربي الأخرى في استعادة الأمن والاستقرار في المنطقة العربية ووقف انحدارها للفوضى الشاملة، والتصدي لمشروعات الهيمنة الإقليمية على المنطقة العربية، لكن هناك حاجة ضرورية لتعزيز هذا المحور من خلال تجميع الصفوف العربية، وتوحيد المواقف والسياسات العربية ليس فقط في مواجهة محاولات الهيمنة الخارجية، وإنما أيضاً في التصدي للقوى والجماعات التي تنخر في منظومة الأمن القومي العربي من الداخل وتجعله أكثر انكشافاً أمام محاولات الهيمنة الخارجية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة