أليس الأجدر بحكومة أردوغان مقاتلة عناصر حزب العمال الكردستاني في مقراتهم بدلا من استثمار الأرض السورية لتصفية حسابتها؟
لم تنعم سوريا منذ اندلاع الاحتجاجات وتطورها إلى الصراع المسلح بالأمن والاستقرار، على الرغم من فترات الهدوء الحذرة بين الفينة والأخرى، والذي لم يكن الهدوء إلا ترقباً لمستقبل مجهول أو انتظار لترتيب الأوراق، أو حتى نقل الصراع من ميدان إلى آخر، لتعود الدائرة في القضية السورية إلى النقطة الأولى من استنزاف البلاد وتمزيقها وإراقة المزيد من الدماء وتشريد الآلاف من السوريين تحت مسميات عدة، لا جميل فيها سوى أسمائها البراقة من "تحرير" و"مكافحة الإرهاب" و"غصن الزيتون" و"درع الفرات" إلى غيرها من المسميات التي لم تجلب للبلاد والعباد سوى الدمار والخراب, ولعل الخلط الأخير في الأوراق على منطقة "شرق الفرات" فيما يسمى بـ"المنطقة الآمنة" التي جاءت نتيجة تفاهمات تركية أمريكية يجعل الخوف السمة الأبرز التي تخيم على أناس، ظن كثير منهم بأن أزيز الرصاص ودوي المدافع ذهب إلى غير رجعة.
إذا كان الرئيس التركي يبحث عن مصلحة السوريين ومهتم لذلك لماذا كان المتطرفون يعبرون الحدود التركية على مرآى جهاز المخابرات التركي وبتسهيل منه، قادمين من شتى بقاع الأرض ليعيثوا فسادا في سوريا قتلا وتدميرا شأنهم شأن المليشيات الإيرانية؟
العملية العسكرية باتت قاب قوسين أو أدنى، ولكن السؤال المطروح ما الذي عجل بقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تسليم المنطقة لتركيا والتخلي عن قوات سوريا الديمقراطية، التي نجحت إلى حد كبير وبدعم من واشنطن القضاء على أعتى وأشرس تنظيم متطرف شهده العالم خلال السنوات السبع الماضية؟
في الحقيقة سببان اثنان وراء استجابة الولايات المتحدة السريعة لتركيا أردوغان:
يكمن الأول في انتهاج إدارة ترامب سياسة جديدة تجاه تركيا، مخالفة للتصريحات العلنية بين الجانبين، مبنية على إعادة التحالف القديم بين أنقرة وواشنطن لأسسه المتينة، التي تشكل قاعدة أنجرليك التركية ومشاركة أنقرة في حلف شمال الأطلسي"الناتو" أبرز ركائزه، بالإضافة إلى قضية التسلح التركي من الولايات المتحدة. ويأتي هذا عقب ملاحظة المسؤوليين الأمريكيين والعسكريين منهم على وجه الخصوص ارتماء تركيا في الحضن الروسي أكثر فأكثر، وبدئها الخطوات الأولى باستراتيجية تغيير الحليف من واشنطن إلى موسكو "راجع تطور العلاقة بين روسيا وتركيا خلال السنتين الماضيتين"، وهذا لن يكون في صالح الولايات المتحدة التي تعرضت لهزات كبيرة في منطقة الشرق الأوسط ليس آخرها الاستفزازات الإيرانية وعدم الرد عليها، ما يراه البعض نقطة ضعف في سياسة الولايات المتحدة تجاه الملفات الخارجية، ومن ثم تريد الإبقاء على ساحة يمكنها من خلالها الحدّ من النفوذ الروسي في المنطقة، وهذا ما نصح به مستشارو ترامب رئيسهم.
السبب الثاني يعود إلى حقيقة عدم قدرة واشنطن البقاء في منطقة أولى نقاط التفاهم عليها ستكون مطالبة دمشق وموسكو وطهران انسحاب الأمريكيين منها، ولعلها النقطة الأبرز في تسوية الوضع في هذه المساحة الكبيرة الممتدة على ثلاث محافظات، هي الرقة ودير الزور والحسكة، والتي تشكل سلة الغذاء لسوريا، ومن ثم يدرك الأمريكيون أن وقت الرحيل بات إجباريا وليس اختيارا، وهذا لا يعني على الإطلاق الخوف من البقاء، ولكن ذهنية قادة الولايات المتحدة مختلفة عن الآخرين، بمعنى أنهم لن يفرطوا بجندي أمريكي واحد من أجل سلامة قوات سوريا الديمقراطية أو غيرها؛ لأن القوى التي تضع نصب عينها الوصول إلى شرق الفرات لن تكون على توافق مع واشنطن ألبتة، بل ستعمل جاهدة على مضايقتها بشتى الوسائل، وهذا ما تهدد به المليشيات المدعومة من إيران ليل نهار، بالإضافة للخلايا النائمة لمتطرفي داعش، والذي يشكلون خطرا كبيرا على الجنود الأمريكيين بتخفيهم وتنفيذهم عمليات إرهابية، كالتي تشهدها محافظة الحسكة بين حين وآخر، ويروح ضحيتها المدنيون قبل العسكريين.
مع كل هذا لا يمكن التغافل عن الأخطاء التي وقعت بها قوات سوريا الديمقراطية بحق أهالي المنطقة التي في معظمهم من العرب، ولكن لا يمكن الاستقواء على المكون الكردي بتركيا تحديدا؛ لأنها إذما دخلت أرضا سورية سوف لن تخرج منها بالشيء السهل، خاصة في ظل الفكر السائد بذهنية من يحكمون "بلاد الأناضول" أن دولتهم "العثمانية" كانت مساحتها أكبر بكثير مما يسيطرون عليه الآن.
لا شك أن مصلحة كل دولة تكمن في تجنيب حدودها الفوضى والاضطراب، ولكن أليس الأجدر بحكومة أردوغان مقاتلة عناصر حزب العمال الكردستاني في مقراتهم بدلا من استثمار الأرض السورية لتصفية حسابتها؟
ثم إذا كان الرئيس التركي يبحث عن مصلحة السوريين ومهتم لذلك؛ لماذا كان المتطرفون يعبرون الحدود التركية على مرآى جهاز المخابرات التركي وبتسهيل منه قادمين من شتى بقاع الأرض ليعيثوا فسادا في سوريا قتلا وتدميرا شأنهم شأن المليشيات الإيرانية؟
ليس هذا فحسب، بل ما الذي منع القوات التركية من مساندة "الجيش الحر" من أجل طرد عناصر جبهة النصرة من إدلب وتجنيب نحو أربعة ملايين مدني حربا تكاد تكون وشيكة غير تحالفات أردوغان الثلاثية مع إيران وروسيا؟
في واقع الأمر يلعب الرئيسان الأمريكي والتركي لعبة قديمة جديدة، وهي تصدير أزمات الداخل إلى الخارج، لا سيما في الوقت الذي يهرول أردوغان لـ"إلهاء" الشعب التركي عن التفكير، الذي بات يراوده ويعايشه في الأشهر الأخيرة بتغيير وجه البلاد، من خلال إزاحة حزب العدالة والتنمية عن كاهل الأتراك، والعيش مع جيرانهم بسلام واستقرار دائمين، لذلك بات عدوان أردوغان على سوريا المخرج الذي يمكن من خلاله للرئيس التركي تأخير موعد استبداله وكسب تأييد مرحلي لن تطول أيامه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة