نظرية الانتحار القومي.. "تركيا نموذجا"
الوضع الحالي للاقتصاد التركي صعب للغاية ولم تعهده تركيا منذ أزمة عام 2001، ويعود ذلك إلى أسباب سياسية واقتصادية عدة
لم يكن يدري "علي باباجان" وزير الاقتصاد ونائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية الأسبق خلال الفترة من 2002 حتى 2015، ورجل الاقتصاد الأول، وصاحب الفضل الجوهري في نجاح التجربة الاقتصادية "الأردوغانية"، أن يأتي اليوم ويرى كل ما بناه بيديه يتم هدمه من قبل رفيق الدرب أردوغان.
شهر المصائب.. والسقوط الحر
حمل شهر يوليو/تموز الجاري مصائب لم يكن يتوقعها أكثر المتشائمين، ووفقا لتسلسل الأحداث يمكن رصد هذه الأحداث في النقاط التالية
• إطاحة اردوغان بـ"مراد جيتينقايا" محافظ البنك المركزي التركي.
• إرسال تركيا سفينة تنقيب ثانية إلى المياه الإقليمية القبرصية.
• استقالة "علي باباجان" من الحزب وتوجيهه انتقادات لاذعة لسياسات الرئيس أردوغان.
• كشفت وكالة بلومبرج عن تفكير أوروبي بفرض عقوبات على تركيا بسبب تحركاتها الاستفزازية في شرق المتوسط.
• تهاوي الليرة وتراجع البورصة في أول يوم تداول بعد إقالة "جيتينقايا".
• إعلان جهاز الإحصاء التركي انكماش الإنتاج الصناعي للشهر التاسع على التوالي.
• مجلس الشيوخ الأمريكي يبدأ إجراءاته لتجهيز عقوبات في حال استكملت أنقرة استلام صواريخ S400.
• وكالة فيتش تخفض تصنيف تركيا الائتماني ردا على إقالة محافظ المركزي.
• الاتحاد الأوروبي يعلن تطبيق أول حزمة عقوبات ضد تركيا بسحب التمويلات والتسهيلات الائتمانية التي تقدمها الهيئات والمؤسسات الأوروبية.
وعلى هذا المنوال وفي خلال أقل من 10 أيام تصاعدت الأزمة التركية بشكل غير مسبوق، ولا أحد قادر على وقف انهيار كرة الجليد.
الاقتصاد ينكمش وكأنه لم ينمُ مسبقا.. كيف حدث ذلك؟
كان أداء الاقتصاد التركي يتسم بالنمو القوي، وجاذبية استثمارية آخذة بالتحسن وتصنيف ائتماني يتميز بالصلابة، وجهاز مصرفي متين يحوذ على ثقة المودعين المحليين والأجانب، ومشروعات قومية عملاقة وتنمية مستدامة في قطاعات مختلفة أسهمت في الخروج السريع من أزمة 2001, الأمر الذي مهد الطريق نحو خفض التضخم والفائدة وتعافي نمو الاقتراض وارتفاع الدخول الحقيقية وتحسن الخدمات وإطلاق العنان للنمو الاقتصادي الكبير.
ويمكن القول إن سنوات الجفاف للاقتصاد التركي قد مرت بـ3 مراحل هي:
المرحلة الأولى: بدأت في شتاء 2011 أي قبل 8 سنوات، حين تحولت السياسة الخارجية لأردوغان من الشراكة والتعاون إلى الاستقطاب والعدوانية والتدخل بدول الإقليم، إذ كان لهذا تكلفة مالية فادحة بالطبع ودفع الاقتصاد ثمنا كبيرا جراء هذه العنتريات.
المرحلة الثانية: بدأت في صيف 2016 بعد الانقلاب الفاشل، ورغم فشل المحاولة الانقلابية فإنها كشفت ثغرات خطيرة بجسد النظام والمؤسسات، ما تلاها كان أخطر، خاصة حملات القمع السياسي وتكميم الأفواه وتقييد عمل المعارضة، كل هذه الأجواء لم تكن محفزة للاستثمار والتجارة والأعمال، بل كانت طاردة بامتياز، وبدأت عجلة النمو في التباطؤ قليلا، وكذلك أخذت المؤشرات الاقتصادية في التراجع لكن بشكل طفيف ومكتوم.
المرحلة الثالثة: بدأت في صيف 2018 حين تصاعدت أزمة "القس برانسون"، وبدأت عقوبات أمريكية تلوح في الأفق ونتيجة لذلك انهارت الليرة التركية بأكثر من 30%، ويمكن اعتبار هذه المرحلة بمثابة القشة التي قصمت ظهر الاقتصاد المتداعي منذ البداية.
اللون الأحمر يغطي كل المؤشرات
تراجع العملة التركية السريع والحاد كان هو مفتاح جميع التراجعات التالية في كافة المؤشرات الاقتصادية الكلية لتركيا، وأبرزها:
• أداء سعر الصرف
نتيجة للأحداث التي وقعت في المرحلة الثالثة من سنوات الجفاف الاقتصادي التي تم ذكرها وتعرضت لها تركيا، أصبحت الليرة التركية أسوأ عملات الأسواق الناشئة أداء خلال عامي 2018 و2019 على التوالي، إذ خسرت 30%، 17% على التوالي.
وتسبب انهيار العملة في اقتصاد يسجل عجزا مستمرا بالتدفقات الداخلة بالعملة الصعبة مقابل المتخارجة منه بالعملة الصعبة أيضا (عجز الحساب الجاري)، في انكشاف البنوك والشركات عند حدوث مثل هذا الانهيار الخطير للعملة.
• النمو الاقتصادي
في أعقاب "المرحلة الثانية" وبعد الانقلاب الفاشل دخل الاقتصاد في موجة انكماش لم تدم طويلا (سالب 0.8%) عاد بعدها ليحقق معدلات نمو جيدة تجاوزت الـ4%.
لكن بعد "المرحلة الثالثة"، وحين حدث انهيار العملة الحاد والمفاجئ في صيف 2018 أصيب الاقتصاد بالشلل التام، ودخل لأول مرة في ركود اقتصادي كامل.
• معدل البطالة
نتيجة لشلل السوق وتراجع النمو وخسارة الشركات وارتفاع أعباء العملة الصعبة، وسوء أداء العملة المحلية أمام سلة العملات الدولية كان طبيعيا أن يؤثر ذلك على التوظيف والتشغيل، واضطرار الشركات والمصانع إلى التخلص من العمالة.
وفي أقل من عام واحد ارتفعت البطالة في تركيا بـ4 نقاط مئوية كاملة، وهى من المرات النادرة في الاقتصاد العالمي.
• معدل التضخم
في اقتصاد مثل الاقتصاد التركي والذي يستورد أكثر مما يصدر ويسجل عجزا كبيرا في تجارته الخارجية مع العالم يقدر بـ70 مليار دولار (العجز التجاري)، كان طبيعيا أن ترتفع أسعار السلع والخدمات ومدخلات الإنتاج لتأثرها المباشر بانهيار العملة، والذي انعكس بالطبع على تكلفة الاستيراد، ومن ثم على تكلفة الإنتاج، وفي النهاية حلق التضخم فوق مستويات تاريخية، إذ وصل إلى 25%.
• الإنتاج الصناعي
نتيجة ارتفاع التضخم وانخفاض القدرة الشرائية للمستهلكين الأتراك وانخفاض الدخول الحقيقية، باتت المصانع تنتج أقل مما سبق، وأصبح عدد آخر مضطر لتخفيض إنتاجه لارتفاع تكاليف استيراد المواد الخام والسلع الوسيطة من الخارج.
ومن ثم تدهورت أوضاع الصناعة التركية لدرجة تحقيق انكماش لـ9 أشهر متتالية من سبتمبر/أيلول 2018 حتى أحدث بيان شهري في مايو/أيار 2019.
• سعر الفائدة
نتيجة ارتفاع التضخم لمستويات قياسية اضطرت لجنة السياسة النقدية في البنك المركزي التركي أن تواجه ذلك عبر سحب السيولة من السوق، لتخفيض الإنفاق قدر المستطاع، لكبح التضخم والسيطرة عليه بالنهاية.
كان ذلك عبر قراراتها المتتالية خلال عامي 2018 و2019، بالتشديد النقدي ورفع الفائدة لمستويات مرتفعة للغاية، وصلت لأن تكون رابع أعلى معدل بالعالم.
ماذا يريد أردوغان من البنك المركزي؟
يقصد بسعر الفائدة مقدار ما ستدفعه فوق أصل مبلغ القرض في حال كنت مقترضا أو مقدار ما ستكسبه فوق أصل مبلغ الوديعة في حال كنت مودعا.
وحين يكون سعر الفائدة مرتفعاً كما هو الحال في تركيا منذ عامين، يُحجم المستثمرون عن الاقتراض من البنوك، ومن ثم يوقفون أي خطط لتوسعة أعمالهم، ومن ثم ينخفض النمو وترتفع البطالة وينخفض التشغيل فتتراجع شعبية الحكومة.
ويمكن القول إن التطورات الانتخابية المتمثلة في خسارة إسطنبول وتحقيق المعارضة مكاسب تاريخية في الانتخابات البلدية، أثارت غضب أردوغان على البنك المركزي، وألقى عليه باللوم في تراجع الشعبية الحاد للعدالة والتنمية لدرجة خسارة المدينة التاريخية.
لذلك حدثت إقالة محافظ البنك المركزي بعد انتهاء جولة الإعادة في انتخابات إسطنبول، لأن الاقتصاد كان هو المدخل الوحيد لانهيار شعبية أردوغان، كما كان هو المدخل الوحيد الذي صنع شعبيته قبل 15 عاما.
تركيا تسقط من أعلى قمة اقتصادية وصلت لها.. كيف ذلك؟
الوضع الحالي للاقتصاد التركي صعب للغاية، ولم تعهده تركيا منذ أزمة عام 2001 أو الأزمة العالمية في 2008، ويعود ذلك إلى العديد من الأسباب، منها على سبيل المثال:
• فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على تركيا وسحب استثماراته.
• الولايات المتحدة قاب قوسين أو أدنى من فرض عقوبات جديدة.
• البنوك الأمريكية الرئيسية توصي بعدم الاستثمار في تركيا.
• صندوق النقد الدولي -شريك النهضة الأردوغانية في البدايات- يوصي الجميع بالانسحاب من تركيا.
• وكالات التصنيف الائتماني الكبرى تصدر تحذيراتها بعدم الاقتراب من السوق التركية وآخرها وكالة "فيتش".
• العلاقات التركية مع الدول الكبرى بالإقليم وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومصر سيئة للغاية.
• العلاقات التركية مع قطر وإيران جيدة للغاية، لكن الواقع أن الدولتين أضعف من أن تستطيعا إنقاذ الاقتصاد التركي من عثرته، وكلاهما لديها مشاكلها الخاصة المنشغل بها، سواء المطرقة الأمريكية المدمرة للاقتصاد الإيراني بحظر بيع النفط وهبوط الإنتاج النفطي الإيراني لأسوأ مستوى في 28 عاما، أو المقاطعة العربية لقطر، وهبوط مؤشرات اقتصاد الدوحة منذ المقاطعة.
هل هناك خلاص لتركيا من هذه الأزمة؟
يمكننا القول إن هناك العديد من الحلول التي ستساعد تركيا في الخروج من أزمتها، وعلى الرغم من أن تنفيذها غير وارد، لكن يظل الحل متاحا إن كان هنا ثمة عاقل في القصر الحاكم بأنقرة.
ويمكن إجمالي الحلول المقترحة في النقاط التالية:
• التوقف فورا عن التدخل بالسياسة النقدية، والحفاظ على استقلالية البنك المركزي، وإعادة "جيتينقايا" إلى عمله في الحال.
• وقف التدخل في سوريا والعراق وليبيا، حيث إن التوقف سينتج عنه وقف نزيف مالي كبير.
• التوقف عن التحرش والاعتداء على الحقوق القبرصية والدخول في تفاوض دبلوماسي مع حكومة "نيقوسيا".
• تقييد السياسة المالية، تقييد شروط الإقراض، وضع هدف تأمين الاقتصاد من المخاطر وعلاج الاختلالات بهدف تجنب كارثة وشيكة قبل هدف تحقيق النمو والشعبية بأي ثمن على حساب صحة الاقتصاد والأمن القومي الاقتصادي.
• المصالحة مع المعارضة وإصلاح المناخ السياسي لتعزيز الاستقرار الداخلي، وأثره الكبير على الاستثمار والتجارة والتمويل.
• البدء في خطة إصلاح اقتصادي شامل وهيكلي لترميم سمعة الاقتصاد المتدهورة منذ وقت طويل.
• استعادة ثقة الأسواق والمستثمرين وبناء مصداقية الحكومة من جديد، من أجل تحويل البيئة إلى جاذبة لا طاردة للاستثمارات والأموال.
احتمالات المستقبل.. هل هناك أسوأ مما حدث؟
من المستحيل أن يستجيب الرئيس التركي لأي دعوات إصلاحية أو نصائح تنتقد وتقترح تعديل سياساته الخارجية والاقتصادية المتهورة والطائشة، ومن ثم يمكن توقع الاحتمالات التالية:
• التعثر أو هيكلة الدين.. أو كليهما معاً
استمرار خفض التصنيف الائتماني التركي سيؤدي إلى ارتفاع مخاطر الاستثمار في السندات التركية، وذلك ينتج عنه انخفاض الإقبال على تمويل الحكومة التركية، مما قد يعرضها لخطر التعثر في الالتزام بواجباتها الإنفاقية.
• تراجع جديد للعملة
الاستمرار في صفقة الـS400 ما يعني أن واشنطن ستعود لصب غضبها على أنقرة، مما يفتح باب الجحيم على الاقتصاد التركي مجددا، ما يؤدي إلى تراجع كبير للعملة وشلل للسوق، وإفلاس للشركات وتخلص من العمالة وارتفاع للبطالة وتوقف للإنتاج.
• الغضب الشعبي
كل هذه العوامل تزيد من احتمالات الغضب الشعبي، والتي قد تجتاح الشوارع التركية قريبا بسبب البطالة وانخفاض قيمة الليرة وارتفاع التضخم وضعف معدلات التشغيل.
• نقص السلع الأساسية
استمرار عجز الحساب الجاري مع انخفاض التصنيف الائتماني، وتراجع ثقة التجار حول العالم في قدرة الحكومة التركية على سداد التزاماتها قد يشير في مرحلة ما إلى عدم قدرة الدولة على الاستيراد من الخارج، خاصة السلع الاستراتيجية، ومن ثم تواجه تركيا مشكلة في إتاحة السلع الأساسية لمواطنيها.
• نزيف الاحتياطي النقدي من العملات الدولية
المستثمر الأوروبي هو أكبر مستثمر بالسوق التركية، والعقوبات الأوروبية في حال تم تصعيدها قد تصل بالتدفقات الاستثمارية لتركيا إلى عجز كبير يؤدي إلى استمرار انخفاض الاحتياطي النقدي مما يزيد جراح الليرة.
• مقاطعة اقتصادية خليجية
السائح الخليجي هو السائح الأكثر إنفاقا في تركيا، ومن ثم فإن توتر العلاقات بين تركيا والخليج العربي ليس قرارا حكيما.
البنوك الخليجية مساهمة رئيسية في تمويل احتياجات السوق التركية من السيولة خاصة من العملات الدولية.
الشركات التركية لها نصيب كبير في مشروعات التشييد والبناء بالأسواق الخليجية.
لذلك فمن المرجح احتمالية فرض عقوبات خليجية عنيفة خاصة من طرف القوي الخليجية الأكبر -أي الرياض وأبوظبي- قد تؤدي إلى خسائر اقتصادية فادحة للاقتصاد التركي.
aXA6IDMuMTI4LjMxLjc2IA==
جزيرة ام اند امز