العلاقات السورية التركية تحولت تحولاً جذرياً بين النقيض ونقيضه منذ اندلاع الأوضاع في سوريا عام 2011؛ بعدَ أنْ وقفت الإدارة التركية المتمثلة بحزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان موقف الداعم للمعارضة السورية داعيةً الحكومة السورية للتنازل عن السلطة.
هذه المواقف حالت دون الاتصال المباشر بين دمشق وأنقرة حتى اليوم، لكنها لم تبقَ على ذاتِ الوتيرة من التشدد من قبل الطرفين؛ إذْ شهدت الأشهر القليلة الماضية بعض التراخي في هذه المواقف من الجانبين التركي والسوري، لتطفو على السطح الكثير من المبادرات الداعية إلى التلاقي والتباحث المباشر للوصول إلى حلول سياسية تضمن تقريب وجهات نظر الجانبين، إلى أن انشغل الأتراك بالمعركة الانتخابية مرجئين كل هذه الملفات السياسية إلى ما بعد الانتخابات التي تمخض عنها التمديد للرئيس التركي (أردوغان) لولاية رئاسية ثالثة.
إنّ التمديد لأردوغان ونجاحه في الانتخابات قد يكونُ مبعثاً لإحياء الجهود الرامية إلى الالتقاء والتوافق السوري التركي الذي من شأنه حلحلة الكثير من الملفات العالقة، كما أنه قد يرسم الملامح لمرحلة جديدة من خطط الحل للأزمة السورية؛ فتلك الإرهاصات للتقارب السوري التركي كانت من رسم الإدارة التركية التي تم التجديد لها، مما يفتح الباب من جديد للاستمرار بتلك الخطوات.
أما على الجانب السوري فمن المؤكد أنّ "دمشق" تبحث عن أي صيغةٍ تُخرجها من أزمتها السياسية والاقتصادية بغية الانتقال إلى طور الحلحلة الذي طالَ انتظاره؛ لذلكَ فإنَّ نهاية هذا العام قد تشهد تحولات كبيرة في العلاقات بين البلدين انطلاقاً من معطياتٍ سورية وتركية وعربية قد تُسهمُ في بلورةِ حلٍّ أو - على الأقل - بادرة حلٍّ للقضية السورية، وفق المعطيات الآتية:
أولاً: المعطيات السورية: سوريا تشهد في هذه المرحلة معضلاتٍ اقتصادية كانت تبدو مستحيلة الحل بسبب الأوضاع الجيوسياسية المعقدة التي تحيط بها، ولا سيما فيما يخص انقطاعها عن محيطها العربي، لكنْ مع عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، وعودة العلاقات السورية العربية إلى سياقها الطبيعي، يُشرع الباب أمام حكومة دمشق للانفتاح على السياسة الإقليمية والدولية من بوابة العروبة التي ظلت موصدةً أمامها لأكثر من عقد، كما أنّ هذه العودة تُكسبُ القضية السورية ثقلاً عربياً سياسياً ودبلوماسياً بما يتماشى والسياسة العربية الشاملة لحلحلة القضايا العربية العالقة، وهو ما يجعلنا وجهاً لوجه أمامَ مفاوضات ومشاورات وحوارات جادةٍ لحلحلة القضية السورية.
ثانياً: المعطيات التركية: باتت تركيا اليوم وأكثر من أي وقتٍ مضى توّاقةً لإيجاد حلولٍ سياسية مع سوريا؛ نتيجة عدد من العوامل الرئيسية التي ألقت بظلالها على السياسة التركية داخلياً وخارجياً؛ فعلى المستوى الداخلي كشفت الانتخابات التركية لإدارة العدالة والتنمية أنها كادت تخسر الرهان السياسي في البلاد نتيجة قضايا رئيسية ترتبط مباشرةً بالأوضاع السورية، كقضية اللاجئين وأمن البلاد والأزمة الاقتصادية وتكاليف الحرب في سوريا؛ الأمر الذي سيجعل إدارة العدالة والتنمية تعيد النظر وتبحث بجدية عن مخرج من تلك الأزمات على شكل اتفاقات سياسية مع سوريا ومحيطها العربي، مما يؤكّدُ أنّ تركيا ستفعّل مقترحات اللقاء السوري التركي وتبعث به إلى الواجهة من جديد بغية التوصل إلى الحلول المناسبة، والعمل على إعادة بناء العلاقات مع الإقليم العربي الذي لا يمكنها الانفكاك والابتعاد عنه.
ثالثاً: المعطيات العربية: تركيا جزء من الإقليم العربي، يتأثر به ويؤثر فيه، والعكس صحيح، والسياسة العربية العامة لجامعة الدول العربية تعملُ اليوم على نهجٍ سياسيٍ جديدٍ قائمٍ على إحلال السلام والاستقرار، والوصول إلى قاعدة (صفر مشاكل) ولا سيما على الصعيدين العربي العربي والعربي الإقليمي، وهو ما تلتقي به هذه الرؤية مع رؤية مماثلة سنجدها تلوح في الأفق من الجانب التركي الذي خرج من معركة انتخابية صعبة للتو، وأنّ مبدأ (صفر مشاكل) هو البوابة الحقيقية لإرساء دعائم الإدارة التركية في قيادة البلاد؛ لذلكَ فإنّ المرحلة المقبلة ستشهد تقارباً عربياً تركياً وسورياً تركياً بما ينعكس على حلحلة الأزمة السورية التي طال أمدها.
كل تلك المعطيات تجعل المبدأ العام الذي سيسود سياسة الإقليم العربي إنما هو مبدأ "صفر مشاكل" الذي تسعى دول الجامعة العربية إلى إرسائه لإحلال السلام والاستقرار في المنطقة، بما يسهم في بناء مقدرات المنطقة والنهوض بمواردها واستثماراتها بما يضمن نهضة شعوبها، وهو ما قد يرى النور قريباً كمبدأ عام تنادي به كل المنابر السياسية لدول الإقليم عامةً بما سينعكس إيجاباً على القضايا الإقليمية المعقدة ولا سيما القضية السورية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة