معظم الدول الأوروبية، فضلا عن الولايات المتحدة، كانت تتطلع إلى أن تسفر الانتخابات في تركيا عن نتيجة أخرى.
إرادة الناخبين قلبت التطلعات، وأجبرت أكثر المنتقدين لإدارة الرئيس رجب طيب أردوغان على إظهار التفهم للنتائج، والإعراب عن الاستعداد للتعاون مع تركيا على امتداد السنوات الخمس المقبلة.
الأمر بدا، في جانبه الحقيقي، بمثابة استعداد للتعايش أكثر منه استعدادا للتعاون. وهذا لا يكفي بالنسبة لتركيا.
الأوضاع الاقتصادية حرجة، ليس لأن احتياطات المصرف المركزي لا تتجاوز 114 مليار دولار فحسب، بل لأن تكاليف إعادة إعمار ما هدمه زلزال 6 فبراير/شباط الماضي تتطلب بمفردها استثمارات تصل إلى نحو 100 مليار دولار. وحيث إن الرئيس أردوغان وعد بإنجاز هذه المهمة في غضون عام واحد، فإن توفير المال يصبح ضرورة ملحة. وما لم تتوفر بيئة تعاون تتصدرها الولايات المتحدة وأوروبا، فإن أقصى ما يمكن للتعايش أن يفعله، هو تجميد الوضع الراهن، أو تحريكه ببطء.
تفتح هذه الحاجة الماسة والعاجلة مدخلا لممارسة الضغوط على أنقرة. الولايات المتحدة، لم تتأخر في الإعلان عن أن إدارة الرئيس جو بايدن تدعم حصول أنقرة على طائرات "إف-16" - وهو الملف المعطل منذ أن اختارت تركيا شراء منظومة صواريخ "إس 400" من روسيا - مقابل موافقة تركيا على قبول عضوية السويد في الحلف الأطلسي. وكان ذلك بمثابة أول المقايضات المشروطة.
في النهاية، يمكن أن تختار تركيا تجاوز العقدة مع السويد، إلا أن المقايضات المشروطة، لا تبدو هي السبيل المناسب لتلبية الاستحقاقات الأخرى، غير تلك التي تتعلق بتمويل مشروع إعادة البناء.
تراجع قيمة الليرة التركية أمام الدولار، والتوقعات القائلة بأن معدلات التضخم سوف تظل تتراوح بين 30 و40 % حتى نهاية هذا العام، تتطلب سياسة نقدية لا تقتصر على رفع معدلات الفائدة.
إدارة الرئيس أردوغان اختارت على امتداد السنوات الماضية أن تتبع سياسة "غير تقليدية"، لا تعتمد على رفع الفوائد لكبح التضخم، وإنما على توفير عائدات أعلى من الصادرات إلى الخارج. أو بمعنى آخر، فإن "التوسع الاقتصادي" كان هو البديل الذي وقعت عليه الرهانات في أنقرة. وعلى الرغم من أنه حقق نتائج، سمحت بمقدار من الاستقرار، إلا أنه لم يكن كافيا.
يحتاج هذا التوسع تعاونا، وليس تعايشا. وإذا دخلت المقايضات المشروطة دائرة التفاوض بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي، فإنها توفر وضعا غير مسبوق من الضغوط، وذلك في جملة واسعة من القضايا التي كانت مبعث خلاف وتوترات، سواء في العلاقة مع اليونان وقبرص، أو في مسألة حقوق التنقيب في المتوسط، أو مطالب تركيا بإعادة ترسيم الحدود البحرية، الأمر الذي ترفضه اليونان ويقف خلفها الاتحاد الأوروبي كله. وكذلك الحال بالنسبة لمساعي الحلول التي تقودها الولايات المتحدة في ليبيا، وهو ما سوف يتطلب انسحاب كل القوات التابعة لتركيا من هذا البلد.
الدول التي ترفع الفوائد لمواجهة التضخم، تفعل ذلك لأن أسواقها الخارجية تملك من السعة ما يكفي للحد من الآثار الضارة لمعدلات الفائدة المرتفعة. بل إن انخفاض قيمة العملة يزيد في جاذبيتها التجارية، مما يخلق فرصا إضافية.
صحيح أن تركيا، حققت بالفعل فوائد تجارية من ناحية المعادلة بين انخفاض قيمة العملة وارتفاع الصادرات، إلا أن الإنتاج البضاعي الصغير والمتوسط، لا يكفيان لتحقيق التوازن. وتركيا بدأت، للتو تقريبا، في بناء قاعدة لإنتاج متقدم، في مجالات الصناعات الدفاعية، وإنتاج السيارات، وبناء المعدات الثقيلة. والبدايات مكلفة عادة. كما أنها، في عين الغرب، مثيرة للقلق.
التوازن بين التضخم والتوسع التجاري يتحقق عندما تنشأ بيئة للتعاون، ترخي حبال الضغوط، وترجئ التنازع حول قضايا الخلاف، وتعثر على تسويات هادئة لها، لترعى المنافع الاقتصادية المتبادلة، وترسم معالم علاقات قائمة على الرغبة بالتعاون، لا مجرد الرغبة بالتعايش.
تستطيع تركيا أن تراهن على تضامن أصدقائها في المنطقة، ومساعداتهم. هذا أمر لا شك فيه، وهو مفيد للطرفين. إلا أنه بدوره لا يكفي، إذا تم الأخذ بعين الاعتبار أن الهوة واسعة بين الممكن والمطلوب.
الحرب الدائرة في أوكرانيا، والانطباع الأوروبي القائل إن أنقرة أقرب إلى موسكو منها إلى بروكسل، وضغوط الاحتياجات العاجلة، تخلق ظروفا غير مواتية لبناء توقعات إيجابية، على المستويين السياسي والاقتصادي بين تركيا وحلفائها الغربيين.
الغرب الذي لطالما تعامل مع تركيا بعين القسوة في الماضي، يريد أن يستأنف هذه النظرة من جديد، ويعتقد أن سياسة "التعايش" تكفي لحشر أنقرة في الزاوية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة