ما من حربٍ على مر التاريخ إلا وتمخضت عن حركاتِ نزوحٍ ولجوءٍ؛ فاللجوء الإنساني هو أول مفرزات الصراعات العسكرية.
ولا يخفى على أحدٍ ضراوة الحرب التي طالت الشعب السوري وهي تودع عامها الثاني عشر، فيما لا يزال اللاجئ السوري يجوبُ أصقاع الأرض باحثاً عن الأمان الذي فقده في وطنه فتركه مرغماً على وقع المدافع وأزيز الرصاص، ليفقده أيضاً في بلدان اللجوء.
ولا يُنكِرُ عاقلٌ الضغوط السياسية والاقتصادية التي يتعرض لها أي بلدٍ مجاورٍ لبلدٍ يعيش حالة حربٍ طاحنة، لِما يُمكِنُ أنْ تفعله الحربُ بإقليمٍ كاملٍ إنْ لم نقل في العالمِ أجمع، لا سيّما في عصر العولمة الذي تعيشه البشرية في هذه الحقبة من التاريخ البشري الذي تترابطُ فيه مشارق الأرضِ ومغاربها بشبكةٍ معقَّدةٍ من العلاقات السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية والاجتماعية.
لكنَّ المُحزِنَ يتمثَّلُ بتحويل قضية إنسانيةٍ مَحضة كقضية اللجوء الإنساني إلى مزايدات سياسية وشماعات تُعلَّقُ عليها كل الإخفاقات الإدارية والسياسية في بلادِ الوجهة القسرية لأيِّ لاجئ أجبرته ظروف الحرب قَهراً وقَسراً على ترك بلاده والهربِ إلى أول بلدٍ تصله قدماه.
تلكَ المعطياتُ وغيرها؛ تجعل من الطبيعي والبديهي أنْ تتحمل البلدان المجاورة لسوريا العدد الأكبر من اللاجئين السوريين، لكن ليس من الطبيعي أنْ يُصبَحَ اللاجئ المقهور سلعةً سياسيةً أو ورقةً للعب في ميادين السياسة الداخلية أو الخارجية في تلك البلدان، وهذا ما يجعل اللاجئ السوري يعيش القلق والقهر وعدم الاستقرار حتى على المستوى النفسي في بلدانٍ مثل لبنان وتركيا.
ففي لبنان يعيش اللاجئ السوري اليوم هجمةً شرسةً وقلقاً رهيباً من دعوات الترحيل القسرية؛ لا سيّما بعدَ أنْ انتقلت الدعوات إلى الترحيل من شرائح معينة في المجتمع اللبناني إلى الطبقات السياسية الفاعلة على مستوى البلاد، متخذةً من قضية اللاجئين ذريعةً ومُبَرِّراً لفشلها السياسي والإداري الذريع في إدارة الأزمة الخانقة التي يعيشها لبنان، ممّا دفع بشرائح واسعة من الشعب اللبناني حتى على مستوى النُّخبة الثقافية والفنية والإعلامية إلى المطالبة بتعجيل خطوات الترحيل القسري للاجئين السوريين، مُنقَسِمِينَ في التعاطي مع الأسباب الموجبة لذلكَ؛ بينَ مَنْ يُريدُ تعرية الطبقة السياسية وإزالة هذه العقبة – اللاجئ – حتى لا يَسمَع هذه الأسطوانة المشروخة مرةً أُخرى، ومَنْ يؤيّد الطبقة السياسية ومُقتنع بوجهة نظرها معتقداً أنّ اللاجئ هو سبب فقره وانهيار اقتصاده.
أما في تركيا؛ فالأمر أشدّ ضراوةً، فاللاجئ السوري ليس سبباً في الأزمة الاقتصادية وارتفاع نسبة البطالة والتضخم فحسب، بل باتَ يُشكِّلُ أزمةً سياسية وعلى المستويين الداخلي والخارجي؛ فباتَ اللاجئون ورقةً سياسية قد تغير وجه البلاد السياسي تغييراً جذرياً بتصدر قضيتهم الخطابات والدعايات الانتخابية، بين معارضة تغازل بعض شرائح المجتمع التركي من الشباب العاطل عن العمل بتخليصهم من ملايين اللاجئين ليفسحوا لهم المجال في العمل، وحكومة حالية تنادي بالإنسانية ومساندة اللاجئين مغازلةً عواطف الشرائح الأُخرى، ذلك ما يخص المستوى الداخلي من السياسة.
أما على المستوى الخارجي، فرسائل المعارضة التركية في ملف اللاجئين تدغدغ الغرب بمنع وصول أي مهاجرٍ أو لاجئ سوري إلى الأراضي التركية، فضلاً عن أنْ يصل إلى الاتحاد الأوربي؛ أما الحكومة التركية الحالية فقد جرب الغرب الكثير من الضغوطات التي مارستها عليه بورقة اللاجئين، ليبقى اللاجئ السوري في حالة ترقبٍ وقلقٍ وعدم استقرار منذ عقدٍ من الزمن، ولا يبدو بأنه سيستقر وإنْ طال الزمن.
تلك التجاذبات السياسية التي يعيشها اللاجئ السوري بقلقٍ بالغٍ وكأنه ينتظر في كلِّ يومٍ مجهولاً قد يكونُ أشنَعُ مما تركه وراءه في بلده المُدَمَّر، تُجرِّده من ميزته الرئيسة كلاجئٍ إنسانيٍّ لتحوله إلى سلعةٍ سياسية تزيد بؤسه بؤساً وشقاءَهُ شقاءً، ليقتحم كل الدروب المظلمة بحثاً عن حياةٍ كريمةٍ وإنْ كانت على هيئة قبرٍ موحشٍ في الغابات المظلمة أو تحت الثلوج في غيابات الطرقات الوعرةِ بغية بلوغ ميناءِ سلامٍ وأمان منشود وإنْ كانَ في خيالاته وصور عذاباته المنتقاة بعنايةٍ من ذاكرته المُتعبة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة