ملفات حساسة بينها النزاعات الحدودية وخلافات تقاسم مياه نهري دجلة والفرات، وخيارات الاصطفافات المتباعدة، والمسألة الكردية في البلدين
لعبت العديد من العوامل التاريخية والسياسية والأمنية بينها قدر التجاور ومتطلباته، وتأثير الهاجس الأمني وتشابكاته، وتعارض التحالفات الإقليمية، دورا أساسيا في رسم مسار العلاقات التركية العراقية.
ملفات حساسة بينها النزاعات الحدودية وخلافات تقاسم مياه نهري دجلة والفرات، وخيارات الاصطفافات المتباعدة، والمسألة الكردية في البلدين، تحولت دائما إلى أبرز نقاط الضعف والقوة في التقارب والتباعد التركي العراقي.
العلاقات التركية العراقية على صفيح ساخن، ولن يبردها بادرات فتح أبواب السدود لمساعدة العراق على تجاوز أزماته المائية، المطلوب أبعد وأهم من ذلك بكثير وهو رسم خارطة طريق تطبيع حقيقي للعلاقات وتلك مسألة تتعثر حتى اليوم
التطورات السياسية في إقليم شمال العراق وعقدة ملف "حزب العمال الكردستاني" وانتشار عناصره في جبال قنديل والعمليات العسكرية التركية هناك، كانت كلها بين المسائل التي أسهمت في تأجيج الخلافات بين البلدين، هي أفقدت أنقرة الكثير من أوراق الاستثمار السياسي والاقتصادي والاستراتيجي في العراق، وجعلت عامل الشك واللاثقة هو الذي يدفع الجاريْن لاستبدال الدبلوماسية الناعمة بالخشنة، وتبني "الرد الاستباقي" في تحديد خياراتهما الثنائية والإقليمية.
وهكذا تحكّمت ملفات التوتر بتحديد خيارات الوضع الجديد في ملفات دائمة السخونة قربت احتمالات الصدام المباشر، حيث كان آخرها تدهور العلاقات في موضوع دخول القوات العسكرية التركية إلى منطقة بعشيقة ورفض أنقرة سحب هذه الوحدات رغم الاعتراضات العراقية المتكررة، والعمليات العسكرية التركية المباشرة داخل شمال العراق ولأكثر من مرة دون علم وموافقة بغداد مما دفع الأخيرة للتوجه إلى منصات عربية وإقليمية ودولية؛ للدفاع عما تقوله وتريده.
تراشق إعلامي، وتصعيد سياسي، وتهديد بسحب السفراء، والتلويح بمواجهات عسكرية، تلك كانت أبرز ملامح النفق المسدود الذي وصلت إليه العلاقات بين البلدين خلال الأيام القليلة الماضية، فما أسباب هذا التوتر؟ ولماذا لا تطلع أنقرة بغداد على خططها الأمنية والعسكرية في شمال العراق؟ ولماذا تتحرك بشكل أحادي تحت عنوان محاربة الإرهاب والرد على الأخطار المحدقة بها؟
حقيقة أولى هي أن دخول إيران إلى قلب المشهد العراقي في الأعوام الأخيرة انعكس سلبا على مسار العلاقات التركية العراقية، وزاد من صب الزيت فوق نار التأزم وتشابكاته.
حقيقة أخرى وهي أن التوتر التركي العراقي لا يمكن فصله عن التوتر الإقليمي، بسبب أكثر من ملف يعني الطرفين مباشرة؛ فالعلاقات التركية العراقية باتت بشكل أو بآخر كانت وما زالت تحت تأثير التقارب والتباعد لكل منهما مع دول الجوار، وملفات إقليمية كثيرة تعني أمريكا وإيران ومصالحهما في المنطقة.
حقيقة ثالثة هي أن كل طرف بحث عن حماية مصالحه على حساب الطرف الآخر سياسيا وأمنيا، وحمّله مسؤولية إيصال الأمور إلى ما هي عليه اليوم من تدهور وارتباك دون إجراء أية عملية نقد ذاتي موضوعية وواقعية تسهم في التهدئة.
الحقيقة الرابعة تؤكد أن لا رغبة في البلدين لتركيب طاولة حوار حقيقي شامل تناقش ملفات الأزمة، وتعمل بهدف تبريد الأجواء وتطبيع العلاقات، ليس لأنهما لا يريدان ذلك، بل لأن حساباتهما الإقليمية هي التي تعرقل مثل هذه الخطوة.
التوتر الحالي بين البلدين بعد الغارات التي نفذتها المقاتلات التركية في شمال العراق ليس الأول من نوعه إذًا، ولن يكون الأخير، لكنه- وهنا الأهم- لن يساعد على الوصول إلى تفاهمات ثنائية ووقف التراشق الكلامي والسياسي والتلويح الدائم باستخدام القوة.
أنقرة تتمسك بأنها ستواصل عملياتها في شمال العراق، وخصوصا في أقاليم سنجار ومخمور وقنديل، تحت ذريعة أن "حزب العمال الكردستاني" يستخدم الأراضي العراقية منذ أعوام طويلة كقاعدة لشن عمليات ضدها، وهي تتهم بغداد بالعجز عن محاربة "الجماعات الإرهابية" التي تهدد الأمن القومي التركي انطلاقا من الأراضي العراقية، وبغداد التي تعاني من فراغ أمني وسياسي لسنوات طويلة وتجد نفسها تحت رحمة التدخلات الخارجية الإيرانية تحديدا، تكتفي بالذهاب وراء رفع الشكاوى وتقديم مذكرات الاحتجاج على الخروقات الجوية المتواصلة من قبل المقاتلات التركية للمجال الجوي للعراق .
ورغم أن الغارات التركية الأخيرة لها مدلولاتها التي تتجاوز مسألة توجيه رسائل مباشرة إلى بغداد، فالمعني هنا هو واشنطن نفسها لناحية التحضيرات العسكرية التركية لعملية شرق الفرات واستهداف مواقع "حزب العمال " في عملية استباقية لمنع تحرك العشرات من مسلحي الحزب باتجاه الأراضي السورية، للمشاركة في أي مواجهات عسكرية تجري بين الجيش التركي والفصائل الكردية بعد تلويح الرئيس التركي بعملية وشيكة هناك.
الواضح تماما هو أن هذه الغارات تأتي وسط أجواء اللقاء الثلاثي التركي الروسي الإيراني في جنيف واستعدادات أنقرة لاستقبال الرئيس الإيراني حسن روحاني لتؤكد موقعها ودورها كلاعب إقليمي فاعل أمام الطاولة في المشهدين العراقي والسوري. ومع ذلك فإن الرسالة الأهم تبقى إبراز مدى التقارب التركي الإيراني بهدف التنسيق لمحاصرة التمدد والانتشار الكردي في سوريا والعراق .
لكن الذي لا تأخذه أنقرة جيدا بعين الاعتبار هو قدرات الرد العراقي على محاولات محاصرة قراره، خصوصا في المجالات التجارية والاقتصادية مع أنقرة، حيث يصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى ما يقرب من 12 مليار دولار لصالح تركيا، وحيث إن العراق يمثل سوقاً أساسية للبضائع التركية، ثم هناك استرداد بغداد للكثير من دورها وثقلها في موضوع شمال العراق والعودة إلى مركزية القرار بعد فشل استفتاء استقلال الإقليم، والتباعد الحالي بين أربيل وأنقرة التي عارضت طموحات كردستان العراق.
رغم محاولات سياسية ودبلوماسية جرت مؤخرا، لا مؤشرات حقيقية بعد على أن البلدين يريدان التحرك باتجاه نسيان الماضي، فحجم التباعد يتجاوز مسألة مساعدة تركيا إقليم كردستان العراق في تصدير نفطه بشكل مستقل عن بغداد، واستقبال أنقرة نائب الرئيس العراقي السابق، طارق الهاشمي، وتحميل القيادات السياسية التركية نوري المالكي، رجل إيران، مسؤولية هذا التراجع في العلاقات وإصرار أنقرة على اختراق الأراضي العراقية.
فشلت جهود إحداث نقلة حقيقية نحو الأفضل في علاقات الجانبين: التركي والعراقي، فزيارة العبادي رئيس الوزراء العراقي الأخيرة إلى أنقرة مثلا، دللت على أن التفاهمات كانت محدودة، وأن الحوار لم يكن سوى استعراض للأزمات، ودون تقديم أية حلول حقيقية لملفات التأزم. لكن هناك حقيقة أخرى لا بد من قبولها وهي أن أسباب الفشل لا تتحمل أنقرة وبغداد مسؤوليته بمفردهما.
فتح صفحة جديدة من العلاقات بين أنقرة وبغداد مرتبط من دون شك، برغبة السلطات السياسية في البلدين بهذا الانفتاح، لكنه مرتبط كذلك بمسار العلاقات بين بغداد وأربيل، وبوجود الرغبة الإيرانية والأمريكية وربما الروسية مؤخرا في عدم عرقلته .
العلاقات التركية العراقية على صفيح ساخن، ولن يبردها بادرات فتح أبواب السدود لمساعدة العراق على تجاوز أزماته المائية، المطلوب هو أبعد وأهم من ذلك بكثير وهو رسم خارطة طريق تطبيع حقيقي للعلاقات، وتلك مسألة تتعثر حتى اليوم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة