المؤكد حتى الآن هو أن العراق سيكون أمام كارثة حياتية وزراعية وبيئية حقيقة بسبب قرار تركيا حبس مياه نهر دجلة بنسب كبيرة داخل أراضيها.
"قطعكم لمياه نهر دجلة جريمة إبادة ترتكب ضد الشعب العراقي".. و"لن تقتلوا دجلة والفرات بلاد النهرين الخالدة".. و"أردوغان الزم حدودك.. أردوغان افتح سدودك".. تحت هذه الشعارات والعناوين تحرك آلاف العراقيين في الأيام الأخيرة لمطالبة تركيا بوقف عملية تعبئة سد "إليسو" الحدودي .
أمام هول المشهد وردود الفعل العراقية والعربية التي تتحدث عن محاولات تعطيش الشعب العراقي بعد تقليص كمية مياه نهر دجلة أحد أهم الرافدين المائيين الواردة من الأراضي التركية تراجعت أنقرة مؤقتاً عن قرار التمسك بملء السد لشهر كامل مما يعني أن الذي سيجرى هو فقط إرجاء موعد المواجهة.
البعض في تركيا يحمّل الحكومة العراقية مسؤولية التأخر في اتخاذ التدابير وبناء سدود وخزانات بمواصفات عالمية لتأمين احتياجات العراق المائية والاستغلال العلمي لهذه المادة الحيوية كما فعلت تركيا منذ سنوات.. لكن قيادات سياسية وأقلام إعلامية عراقية كثيرة تعتبر أن دجلة والفرات هما ليسا فقط مصدرين مائيين للشعب العراقي بل رمز حضارات تاريخية بنيت حولهما منذ آلاف السنين وبينها السامرية والأشورية والعباسية إلى جانب دور الحوضين في تشكيل مساحات شاسعة من الأهوار العراقية الموضوعة اليوم تحت حماية منظمة اليونيسكو العالمية لأهميتهما التاريخية والحضارية.
مشكلة تركيا مع جاريها السوري والعراقي كانت دائما قولها إنها ليست دولة غنية بالمياه حسب الأرقام العالمية لكمية الفرد من المياه وأنها تحركت في العقود الثلاثة الأخيرة لتأمين أمنها المائي، لكنها عرضت بيع المياه إلى الخارج وتحديدا إلى إسرائيل في التسعينيات مع مشروع خط أنابيب السلام
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يقول إنهم لن يتراجعوا عن خطة ملء السد وإنهم أبلغوا السلطات العراقية بضرورة تخزين المياه قبل 10 سنوات، وأنه على العراق أن يحترم قرار شعبنا ومصالحنا أيضاً سد "إليسو" سوف يجعل مناطق جنوب شرق تركيا أكبر المناطق الزراعية والسياحية والأهم لتوليد الكهرباء في أوروبا". لكن وزير الموارد المائية العراقي حسن الجنابي يقول إن تركيا خالفت اتفاقيات التنسيق المشترك بين البلدين بخصوص تخزين المياه في سد "إليسو"، فالجانب التركي باشر ملء السد في 1 مارس/أذار الماضي، متجاهلاً أن حق الحصول على المياه حق طبيعي لا يمكن التفريط فيه وأن كميات المياه الواصلة من تركيا انخفضت بشكل قياسي، حيث تصل إلى نحو 390 متراً مكعباً في الثانية مقارنة مع 700 متر مكعب بالثانية العام الماضي.
السفير التركي في العراق فاتح يلدز يقول إن الحوار والتفاهم والتفاوض مع بغداد هي مسار الحل الوحيد للأزمة وإن أنقرة لن تخطو خطوة واحدة دون أن تستشير جارتها، ووزير الغابات والمياه التركي ويسل أر أوغلو يقول إن بلاده وافقت على الطلب العراقي وأرجأت تعبئة السد حتى الأول من يونيو الجاري، "لا يمكن حبس المياه في رمضان"، لكن الإعلام العراقي يتوقف عند مسألة أن وراء قرار إعادة ضخ المياه هو ذهاب العدالة والتنمية إلى انتخابات مبكرة هذا الشهر، وهو لا يريد أن ينعكس هذا التوتر على حساباته الانتخابية والسياسية بطابع إقليمي هذه المرة.
هي عملية الإرجاء الثانية خلال عام واحد وبعد سنوات على إكمال بناء السد المخصص لتوليد الطاقة في مناطق جنوب شرق تركيا، وهناك احتمال حدوث إرجاء ثالث في الأسابيع المقبلة إذا ما قررت تركيا توسيع رقعة عملياتها العسكرية في شمال العراق ضد مواقع "حزب العمال الكردستاني" وحتى لا تتوتر العلاقات أكثر فأكثر، لكن القرار التركي هذا لا يحل المشكلة بل يؤخر موعد انفجارها مجدداً بين البلدين. هناك في تركيا وفي العراق من يتحدث عن بداية تحول مسألة المياه إلى ورقة ضغط على العلاقات بين البلدين واحتمال حدوث المواجهة إذا ما استمرت عملية تداخل الملفات الأمنية والسياسية والمائية على هذا النحو.
المؤكد حتى الآن هو أن العراق سيكون أمام كارثة حياتية وزراعية وبيئية حقيقة بسبب قرار تركيا حبس مياه نهر دجلة بنسب كبيرة داخل أراضيها لملء سد "إليسو". وهناك في العراق من يقول أيضاً إن القرار التركي هذا سيوتر العلاقات التركية العراقية الجاهزة للانفجار في أية لحظة إذا ما طبق دون التنسيق مع بغداد وفي إطار خطط تفاهم تضمن استمرار تدفق نهر دجلة وبالنسب التي تحمي الحياة اليومية وتوفر للشعب العراقي احتياجاته في مياه الشرب والري وتوليد الطاقة.
مشهد التوتر المائي التركي العراقي الذي برز في منتصف سبعينيات القرن الماضي عندما أنجز الجانب التركي بناء سد "كيبان" أحد السدود العملاقة في جنوب شرق تركيا، وبداية تسعينيات القرن الماضي، عندما أنجز سد "أتاتورك" يتكرر اليوم مع سد "إليسو" لكن الأزمة تتفاقم يوماً بعد آخر بسبب تزايد الحاجة إلى المياه والعجز في الميزان المائي بين العرض المحدود والطلب المتزايد، وتباعد المواقف والرؤى القانونية والتقنية والسياسية بين البلدين .
تركيا أنجزت بناء 22 سداً على نهري دجلة والفرات في الثلاثين عاماً الأخيرة فيما كان الجانب العراقي منشغلاً بأزماته السياسية والأمنية الداخلية.. وتركيا تعتمد على سياسة الربط بين الملفات الأمنية والسياسية من جهة والملف المائي من جهة أخرى، وتعتبر أنه لا يمكن الوصول لحلول نهائية بشأن الملف المائي مع دول الجوار دون حل الملفات الأخرى مثل إنهاء تواجد "حزب العمال الكردستاني" في شمال العراق واعتماد بغداد سياسة مائية مغايرة لما تقوله اليوم.
لكن الحقائق والأرقام والمعطيات تقول شيئاً آخر: تفاقم الأزمة المائية على هذا النحو بين البلدين قابل للانفجار في كل لحظة، فالطلب على المياه لا يشبه حتماً المواد الحياتية الأخرى خصوصاً أن المطالب والاحتياجات لا تدرس حتى اليوم بشكل مشترك في إطار تطابق وجهات نظر الخبراء الفنيين في البلدين حول خطط الأمن المائي وسبل استغلال هذه الموارد المشتركة ضمن صيغة تحديد الحصص المائية.
العراق هو أحد البلدان التي ستعاني من أزمة مياه خانقة في السنوات المقبلة بسبب ارتباطه مائياً بجاريه التركي والإيراني، فما يقارب 74% من مياهه يأتي من خارج البلاد وتحديداً من تركيا وإيران وسوريا والعراق الذي يحتاج سنوياً إلى أكثر من 50 مليار متر مكعب من المياه محكوم بالحصول على 60 في المئة منها من نهر دجلة وحده. والبعض في بغداد يذكر أنقرة أن القانون الدولي واضح في الأحكام والقواعد المعروفة لتقاسم مياه الأنهار المشتركة وفي مقدمتها تحديد عدد سكان كل دولة ومساحة الجزء المائي داخل كل دولة وحجم الروافد والظروف المناخية وسوابق استعمال مياه النهر والحاجات الفعلية لكل دولة، لكن الرسائل السياسية هي التي طغت في الجانب العراقي حول أن تركيا تشن "حرب مياه" على العراق، وأن باب التدخلات الخارجية لن يغلق في ظل إصرار تركيا على الاستمرار في نهج التجاوز على السيادة الوطنية وعدم احترام حقوق الجار العراقي ومحاولة التحكم بموارده المائية.
أنقرة تتعهد أنها لن تترك جارها العراقي دون مياه لكن هناك الصوت العراقي الذي يطالب بحصته بشكل علمي وحسب الاحتياجات والأرقام البشرية والحالة الجغرافية والأوضاع البيئية.. ثم هناك حقيقة.
إطلاق أنقرة ومن جانب واحد لبرنامجها الإنمائي الاستراتيجي في الثمانينيات مشروع جنوب شرق تركيا "غاب" لتوليد الطاقة والري، والذي ما زال موضوعاً خلافياً أساسياً بين الدول الثلاث التي تتقاسم نهري دجلة والفرات، وتر العلاقات أكثر فأكثر وتركها أمام الانفجار الأمني والعسكري في كل لحظة.. واليوم جاء دور إنشاء تركيا لأكبر سد على نهر دجلة بكلفة مليار و250 مليون يورو لحبس كمية مياه تصل إلى 11.4 مليار متر مكعب في عملية يتوقع أن تستغرق عاماً كاملاً بهدف توفير 4 مليارات كيلو وات طاقة في العام لمنطقة جنوب شرق البلاد.
مشكلة تركيا مع جاريها السوري والعراقي كانت دائماً قولها إنها ليست دولة غنية بالمياه حسب الأرقام العالمية لكمية الفرد من المياه وإنها تحركت في العقود الثلاثة الأخيرة لتأمين أمنها المائي، لكنها عرضت بيع المياه إلى الخارج وتحديداً إلى إسرائيل في التسعينيات مع مشروع خط أنابيب السلام الذي أطلقه الرئيس الراحل تورغوت أوزال على حساب الدخول في حوار حقيقي مع دمشق وبغداد لحل مشاكل تقاسم مياه نهري دجلة والفرات.
المسألة الأساسية التي لا تؤخذ كثيراً بعين الاعتبار في تركيا هي الحالة اللا طبيعية التي يعيشها العراق منذ أكثر من عقدين وضرورة مراعاة ما يمر به من حالة عدم استقرار سياسي وتراجع أولويات التوظيفات المالية في المشاريع التنموية التي يمر بها لمواجهة مشاكل تأمين احتياجات المواطن المائية وتجنيب البلاد أزمات التصحر والجفاف والقحط.
قناعة تركية من هذا النوع قادرة على فتح الطريق أمام طرح ونقاش خطط التنسيق والتعاون الواقعي والعملي والشفاف بين البلدين بدل اللجوء إلى اتفاقيات وعقود طرفية مؤقتة لا تسهم سوى في تأخير ساعة انفجار القنبلة المائية الموقوتة.
التوتر المائي الحقيقي بين تركيا والعراق لم يبدأ بعد وما يدور حتى الآن هو مجرد مؤشرات حول خطورة ما سيجري إذا لم تسارع الدولتان لإيجاد الحلول السريعة والجذرية لأكبر كارثة حياتية تفتح علبة الباندورا المائية في المنطقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة