تركيا ليست جادة في مسألة القطيعة مع إسرائيل
التراشق الكلامي والسياسي بين تركيا وإسرائيل ليس أكثر من حالة كلاسيكية معروفة تتكرر بين الحين والآخر، وتعودنا عليها في لعبة الجذب والشد رغم أنها تحمل الكثير من الإثارة عندما يخالجنا الشعور بأنها تسير على حافة الهاوية.
بعد قرار ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، واندلاع موجات الغضب التي أدت إلى سقوط عشرات الشهداء الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، طلبت الخارجية التركية من السفير والقنصل الإسرائيلي مغادرة أراضيها، لأن "عودتهما إلى بلدهما لبعض الوقت ستكون أفضل "، فردت إسرائيل بالأسلوب نفسه دون زيادة أو نقصان.
المتابع لمسار العلاقات التركية الإسرائيلية عن قرب لا يعرف هو نفسه عدد المرات التي وقعت فيها حالات توتر من هذا النوع لكنه يعرف جيداً أن الطرفين كانا يخرجان من المواجهة عاجلاً أم آجلاً، ويعلنان انطلاق بداية جديدة من العلاقات تعيد الأمور إلى نصابها.
أنقرة لن تعقّد علاقاتها أكثر من ذلك مع إسرائيل لأنها تحتاج إليها اقتصادياً وسياسياً واستراتيجياً، والتجارب السابقة هي أكبر برهان، كل ما سيحاول البعض في تركيا فعله هو رمي الكرة في ملعب دول المنطقة وتحميلها لاحقاً مسؤولية عدم اتخاذ الموقف الموحد وتنفيذ القرارات المتفق عليها حيال إسرائيل.
تتراوح المواقف والتحليلات الصادرة في تركيا وإسرائيل بين مؤيد للتصعيد وضرورة تلقين الطرف الآخر الدرس المناسب، وبين رافض لصب الزيت فوق نار العلاقات وتأجيجها أكثر من ذلك. الملفت أكثر كانت الأصوات المشتركة التي تدعو للتمييز بين سياسات الأشخاص في السلطة وقراراتهم التي قد تكون خاطئة وبين حاجة البلدين إلى بعضهما البعض في أكثر من ملف وقضية ثنائية وإقليمية تفرض عليهما عدم تجاوز الحدود التي باتت شبه معروفة على ضوء أكثر من اختبار توتر وتأزم تركي إسرائيلي في العقد الأخير.
المصطلح الذي استخدمه وزير الاستخبارات والمواصلات الإسرائيلي يسرائيل كاتس، عندما قال إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يلعب مع إسرائيل بطريقة "فرينمي" أي الصديق العدو، يلخص الحالة القائمة ومدى وجود هذه الرغبة في القطيعة حقاً.
زعيم حزب المعارضة التركي كمال كيليشدار أوغلو، أعلن أنه إذا ما كانت الحكومة جادة في تصعيدها مع إسرائيل هذه المرة فعليها التخلص من الاتفاقية التي وقعتها معها عام 2016 وبعد حادثة الاعتداء على أسطول الحرية في عرض المتوسط، وقال إنه على استعداد لإيجاد وسيلة في جمع مبلغ العشرين مليون دولار الذي دفعته تل أبيب لأنقرة، بمثابة تعويضات مادية ومعنوية إذا ما قررت الحكومة تبني هذا الاقتراح.
بعد ساعات جاءه الرد من قبل وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو أن ما يقوله زعيم المعارضة غير واقعي، الرئيس التركي أردوغان قال قبل ساعات إن بلاده ستلتزم بتوصيات قمة إسطنبول الإسلامية لناحية مقاطعة البضائع الإسرائيلية ولكن بعد الانتخابات التي ستجرى في يونيو/حزيران المقبل. هل سيشمل ذلك التكنولوجيا العسكرية وتبادل الخبرات الاستخباراتية والأمنية والدعوة لوقف تبادل السياح والزوار؟
أنقرة تحتاج إلى تل أبيب في الملف الأرمني ببعده الدولي وكذلك إلى الدعم الإسرائيلي في موضوع القضية الكردية بشقها الإقليمي وضرورة التنسيق معها في مسألة استخراج الغاز وتصديره من شرق المتوسط، وتل أبيب ستبحث دائماً عن الدعم التركي المقدم لإخراجها من عزلتها الإقليمية وعروض الوساطة التي قدمت لها في السر والعلن في أكثر من ملف مصالحة وتطبيع.
الاحتكام إلى العقل التركي والإسرائيلي في مخاطر المقاطعة وارتداداتها السلبية وحاجة البلدين إلى هذا الكم الهائل من الخدمات المتبادلة، هو الذي سيحسم المسألة مرة أخرى.
السؤال قد يكون حول من الذي سيتجرأ على التفريط بأكثر من خمسة مليارات دولار من التبادل التجاري في هذه الظروف الاقتصادية والمالية الصعبة التي تعيشها تركيا. لكن السؤال الأهم والأصعب الذي يناقش في الداخل التركي أيضاً هو من الذي سيتمكن من تحمل أعباء ارتدادات المضي في تأزيم العلاقات التي تدفع إسرائيل باتجاه إقليمي آخر يأخذ بعين الاعتبار البحث عن خيارات وبدائل توصلها إلى ما تريد استراتيجياً واقتصادياً وأمنياً أمام التصلب والتشدد التركي؟
من منا لا يعرف أن مسار العلاقات التركية الإسرائيلية ومستقبلها مرتبط مباشرة بمسار ومستقبل العلاقات التركية الأمريكية نفسها، وأن أي توتر تركي إسرائيلي سيعني بشكل أو بآخر توتر تركي أمريكي في العلاقات.
لكن الذي لا يعرفه الكثيرون هو أن قلب هذه المعادلة لم يعد صحيحاً أو مقبولاً أمريكياً وإسرائيلياً. فقرار أنقرة المضي في التصعيد مع واشنطن أو تل أبيب لم يعد يقلقهما كثيراً كما كانت الأمور في السابق. أمريكا وإسرائيل باتتا تملكان الكثير من الأوراق والفرص والخيارات والبدائل الإقليمية الاستراتيجية التي تعوض لهما النقص في حاجتهما إلى تركيا. فهل من المعقول أن تتبنى أنقرة سياسة هجومية أكثر من ذلك مع إسرائيل بعد الخروج من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية؟.
أنقرة تدرك أن الدخول في مواجهة تصعيدية مع تل أبيب ليست مسألة سهلة، والدليل قبولها بتوقيع اتفاقية التطبيع معها قبل عامين لإغلاق ملف التوتر في حادثة الاعتداء على أسطول مرمرة في عرض المتوسط. لكن أنقرة تدرك جيداً أيضاً أنه بمقدور إسرائيل توجيه ضربات موجعة لها في ملفات حساسة تقلق الأتراك بينها الملف الأرمني ولعب ورقة اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة لصالحها في الحصول على ما تريده من البيت الأبيض، وأنها اليوم تدفع ثمن هذا الخطأ الذي ارتكبته بعد إغضاب إسرائيل في قضايا ثنائية وإقليمية. تركيا لن تغامر بإحراق أوراق القوة الإسرائيلية ولوبياتها في الغرب التي تحتاج إليها ووقفت إلى جانبها في ملفات صعبة ومعقدة تطاردها منذ عقود؟.
بإيجاز أكثر أنقرة لن تعقد علاقاتها أكثر من ذلك مع إسرائيل، لأنها تحتاج إليها اقتصادياً وسياسياً واستراتيجياً والتجارب السابقة هي أكبر برهان، كل ما سيحاول البعض في تركيا فعله هو رمي الكرة في ملعب دول المنطقة وتحميلها لاحقاً مسؤولية عدم اتخاذ الموقف الموحد وتنفيذ القرارات المتفق عليها حيال إسرائيل.
أنقرة تعرف جيداً أن إخراج اسرائيل من المعادلة الإقليمية لم تعد بعد الآن بين المستحيلات، لذلك فإن الأزمة الحقيقية هي في إقناع تل أبيب نفسها بعدم المضي في سياسة القفز إلى الأمام والتصعيد أكثر من ذلك. اختبار الحالة الإيرانية في سوريا أفضل مؤشر على ما تريده وتعد له إسرائيل ضد طهران إقليمياً، وهذا ما سيدفع القيادة السياسية التركية عاجلاً أم آجلا لمراجعة سياستها الإيرانية أيضاً.
إسرائيل تقول إنها تخوض حرباً وجودية مع إيران وإنها لن تتردد في استخدام كل ما تملكه من قوة للرد، وأنقرة لن يهمها هنا سوى تحسين موقعها الإقليمي ولعب أوراق جديدة والحصول على ما تريده من تل أبيب، وهي لذلك ستضحي بعلاقتها المتزايدة مع إيران بعد أن تحصل على الضوء الأخضر الإسرائيلي والأمريكي حيال مطالبها.
أحياناً ينبغي الإصغاء إلى القيادات الإسرائيلية أيضاً فيما تقول، وبينها يسرائيل كاتس، وزير الاستخبارات نفسه، الذي يردد "نحن نتعايش مع أردوغان رغم أننا نعرف أنه يعتبر نفسه قائد الإخوان المسلمين بالعالم ويحاول أن يقود العالم الإسلامي، ولكن التجارة التركية معنا بمبالغ كبيرة وخيالية، لم تتأثر بذلك، وشركات الطيران التركية هي أكبر شركات النقل الجوي من وإلى إسرائيل".
يركز ميناشي كارمون، رئيس مجلس الأعمال التركي-الإسرائيلي بعد كل مرة يلتقي فيها وفود رجال الأعمال الأتراك في تل أبيب على عدم التوقف مطولاً عند الأزمات السياسية بين القيادات في البلدين، فالطرفان لا يمكن لهما معاقبة نفسيهما تجارياً واقتصادياً بعد الآن بسبب تداخل المصالح.
الإعلامي التركي محمد أوجاك تان، نجح في تلخيص المسألة ربما عندما قال ندينهم ونندد بهم لكننا لا نتردد في توقيع العقود والصفقات التجارية معهم.
تقارير الصحف التركية المعارضة كتبت تقول بعد ساعات على مهرجان التضامن مع القدس في إسطنبول إن الموانئ التركية واصلت عملية نقل نفط شمال العراق إلى إسرائيل دون أي توقف، فالمهرجان شيء والمصالح التجارية شيء آخر.
تركيا ليست جادة في مسألة القطيعة مع إسرائيل، فأسلوب دعوة السفير الإسرائيلي للمغادرة "العودة إلى تل أبيب هي أفضل في هذه الظروف" يعكس هذه الحقيقة.
تقاطع المصالح بين الدولتين هو الذي دفع أنقرة لتأجيل شرط رفع الحصار عن غزة قبل عامين عند توقيع اتفاقية التطبيع مع إسرائيل، وهو الذي سينهي مرة أخرى هذا التوتر الجديد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة