المشهد التركي.. رسائل المنشقين عن العدالة والتنمية نار تحت الرماد
حزب العدالة والتنمية في تركيا يواجه تحديات ضاغطة وانتكاسة جديدة تؤثر على بقائه وتحالفاته وبرامجه.
يواجه حزب العدالة والتنمية في تركيا تحديات ضاغطة وانتكاسة جديدة تؤثر على بقائه وتحالفاته وبرامجه على نحو ظهر جليا في خسارته عددا معتبرا من أهم أقطابه ورموزه التاريخية، فقد تحول أصدقاء الأمس إلى أعداء اليوم، وكان بارزاً هنا اتخاذ رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو في أغسطس الجاري خطوات عملية نحو تأسيس حزب جديد منافس للرئيس رجب طيب أردوغان، وذلك بعد تقييم أصدره في أبريل 2019 للانتخابات المحلية الأخيرة، وألقى فيه باللوم على سياسات حزب العدالة والتنمية.
انشقاق أوغلو، الذي وصف بأنه هنري كسينجر تركيا والمنظر الأول للسياسة التركية في عهد حكم العدالة والتنمية، لم يكن مفاجئاً وليس هو الأول من نوعه، ففي يوليو الماضي استقال وزير المالية السابق علي باباجان، وأكد في بيانه الاستقالة أنه بات يشعر بحالة من "الانفصال العقلي والوجداني" مع تلك الممارسات التي تتم في حزب العدالة والتنمية"، ويتجه بابا جان إلى بناء حزب جديد بدعم من رئيس الجمهورية السابق عبدالله غول، وقيادات أخرى بدأت تبحث عن فضاءات حزبية جديدة، بسبب رفضها سلوك الرئيس التركي لتفصيل المشهد التركي على مقاس أطماعه وطموحاته السياسية ناهيك عن الاعتراض على إدارة الحزب والتي حُصرت في أيدي مجموعة أطلق عليها اسم "مجموعة البجع".
وتقتصر مجموعة البجع على عدد محدودة من أهل الثقة لدى الرئيس التركي، وهي مجموعة من الساسة والصحفيين والأكاديميين الأعضاء بحزب العدالة والتنمية، وقد أصبحت مقاليد إدارة الحزب في يدهم بعد استقالة وزير الخارجية السابق أحمد داوود أوغلو، حيث يديرون أمور الحزب بعيدا عن القنوات المخصصة لها حسب لوائح الحزب.
دوافع الانشقاقات عن العدالة والتنمية
يمكن تفسيره تخلي طيف واسع عن عضوية العدالة والتنمية وعدد معتبر من القيادات التاريخية أنه يستند لجملة من الاعتبارات:
أولا: الممارسات السلطوية للرئيس التركي والتي أدت إلى حدوث انشقاقات متتالية داخل الحزب، خاصة بعد الهزائم التي مُني بها الحزب في الانتخابات المحلية التي جرت في نهاية مارس الماضي، وخسارته عددا معتبرا من المدن الكبرى في الصدارة منها انتخابات إسطنبول.
والأرجح أن قطاعا واسعا من نخب العدالة والتنمية سئم توجه أردوغان نحو الفردنية بهدف تثبيت طموحاته السلطوية وغرس مخالبه في جسد المجتمع والإمساك وحده بمفاصل الدولة، وكان بارزاً هنا إقالة أحمد داود أوغلو في مايو 2016، الذي لم يكن متحمساً ولا مقتنعاً بالتعديلات الدستورية التي جرت في أبريل 2017، وحولت البلاد لجهة النظام الرئاسي، وقال خلال فترة وجوده في موقع رئاسة الوزراء: "النظام الرئاسي أولوية.. لكن إذا لم يكن فرضه ممكناً في البرلمان فلا مجال للإصرار عليه".
ثانيا: تبني الرهانات الأيديولوجية، كشف التوجه الأيديولوجي الذي اعتمده حزب العدالة والتنمية في دعم حركات الإسلام السياسي في المنطقة عن قصور الوعي السياسي للحزب في فهم طبيعة العلاقات الدولية، وكيفية تطوير العلاقات بين الدول على أساس المصالح المشتركة والتنمية وبما يخدم الاستقرار والديمقراطية؛ إذ تحوَّل هذا البُعد إلى مشكلة للسياسة الخارجية التركية تبلورت في شقين؛ أولهما اتساع الهوة بين تركيا ومحيطها العربي، ويرتبط الثاني بالتوجه الجديد للإدارة الأمريكية الساعي إلى اعتبار عدد كبير من جماعات الإسلام السياسي، بمختلف تشكيلاتها وتسميتها وفي مناطق العالم كافة، كيانات إرهابية.
ثالثا: تشويه التيار الإصلاحي داخل الحزب، سعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى استنزاف خصومه ومعارضيه السياسيين في الداخل وتشويههم، وخاصة التيار الإصلاحي داخل حزب العدالة والتنمية، كخطوة استباقية لتأمين بقاء حزبه في صدارة الاستحقاقات الانتخابية التي تشهدها البلاد، ولضرب مصداقية المخالفين لتوجهاته، وبدا ذلك في محاولة اتهام علي بابا جان شريكه السابق في إدارة حزب العدالة والتنمية بالانتماء إلى جماعة "غولن"، ناهيك عن توصيفه للمنشقين عن حزب العدالة والتنمية بالخونة، وأكد أن مصيرهم الفشل طالما نزلوا من قطار الحزب، بل توعدهم بإجراءات عقابية قاسية.
الإصرار على تشويه رفاق الأمس، دفع بعضهم إلى تقديم الابتعاد خطوات كبيرة عن الحزب، وفي هذا السياق، تشير تصريحات عديدة لباباجان في عدة وسائل إعلامية إلى أن "تركيا بحاجة إلى رؤية جديدة يتم وضعها بالتشاور مع الجماعات المختلفة"، كما تعبر تصريحات أحمد داوود أوغلو رئيس الوزراء السابق، في توقيتات مختلفة، عن مخاوفه من الأوضاع داخل الحزب، وعلى الرغم من تأكيده أنه سيظل عضوًا في الحزب، فإنه يضيف أن الاستقالة من الحزب ستكون الملاذ الأخير.
والأرجح أن الرئيس التركي انحرف بالحزب عن القيم والمبادئ التي طالما كانت تمثل ركيزته عند نشأته في عام 2001، وبدا ذلك في السلوك التركي بشأن القمع وانتهاكات حقوق الإنسان ومصادرة الحريات العامة، إضافة إلى الإجراءات الاستثنائية التي تمارسها تركيا منذ الانقلاب الفاشل في صيف 2016.
رابعاً: فشل التحايل على الأزمة الاقتصادية، لا يزال تردي الأوضاع الاقتصادية في تركيا يهيمن على توجهات المستثمرين، خصوصا بعد أن خفضت وكالات التصنيف الائتماني واقع الاقتصاد التركي.
وبرغم سعي الحكومة التركية إلى تحفيز الاقتصاد من خلال الإقراض الرخيص من البنوك التي تديرها الدولة، وتخفيض أسعار الفائدة في البنك المركزي فإن هذه الإجراءات لم تفلح في تسكين أوجاع الأزمة، فبحسب البنك الهولندي الشهير "إي بي إن أمرو"، لا يزال الاقتصاد التركي، الذي عانى من أزمة في العملة العام الماضي، في حالة ركود ولا يتوقع سوى انتعاش متواضع.
وفقدت الليرة التركية ما يقرب من ثلث قيمتها أمام الدولار، وهو ما ترتب عليه زيادة عجز الميزانية إلى 4,24 مليار دولار بنهاية مارس 2019، كما شهد معدل النمو الاقتصادي التركي تدهوراً ملحوظاً ليصل إلى 2,6%، مقابل 7,4% في عام 2017، ليدخل الاقتصاد مرحلة ركود هي الأولى من نوعها منذ 10 سنوات، وقد يواجه الاقتصاد التركي أزمة موجعة في الفترة المقبلة مع تصاعد احتمال فرض عقوبات أمريكية على أنقرة لشرائها صواريخ الدفاع الجوي الروسية من طراز إس-400.
مسارات ما بعد الانشقاقات
شكل صعود حركة الانشقاقات داخل الحزب العدالة والتنمية، وتوجه المنشقين نحو بناء أحزاب جديدة ظاهرة لافتة للانتباه في ظل تراجع موقع وموضع حزب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إضافة إلى ما تتمتع به بعض الرموز المنشقة مثل علي بابا جان وأحمد داود أوغلو من سمعة طيبة وأرضية سياسية معتبرة في الداخل التركي.
ولذلك فإن المسار المحتمل لظاهرة الأحزاب المنتظر الإعلان عن ولادتها من رحم العدالة والتنمية قد تتجه نحو مزيد من الحضور، ويكشف عن ذلك عدة دلالات: أولها تراجع استراتيجية حزب الرئيس أردوغان، حيث تعرض لتآكل لا تخطئه عين في الرصيد التقليدي لقواعده الانتخابية، وتجلى ذلك في تحول بعض ناخبي حزب العدالة والتنمية إلى حزب الشعب الجمهوري العلماني في التصويت على اختيار رئيس بلدية إسطنبول في جولة الإعادة التي جرت في يونيو الماضي.
صحيح أن هذا العدد كان ضئيلاً إلا أن هذا العدد قد يزيد مع ميلاد الأحزاب الجديدة المنتمية إلى تيار يمين الوسط أو الليبرالية وأحزاب تنتمي إلى التيار المحافظ التي يتوجه إلى تشكيلها زعماء مثل علي بابا جان وأحمد داود أوغلو.
وثانيها، إصرار الرئيس رجب طيب أردوغان على فتح جبهة جديدة للصراع مع قيادات حزبه الحاكم القدامى والمختلفين معه في خياراتها الاقتصادية، وبدا ذلك في عزل محافظ البنك المركزي في يوليو الماضي على خلفية رفضه تخفيض أسعار الفائدة.
خلف ما سبق، فإن قطاعات انتخابية كبيرة محسوبة على العدالة والتنمية رفضت محاولات الرئيس أردوغان لتعديل ميزان القوى في تركيا عشية خسارة بلدية إسطنبول في مارس الماضي عن طريق التلاعب بنتائج الانتخابات، واعتمد في ذلك إلى سياسة اعتمدت في الأساس على استخدام القوة والعنف ضد السياسة الديمقراطية.
على صعيد مصل، فإن الأحزاب التي تنتظرها الساحة التركية بقيادة وجهاء تاريخيين بحزب العدالة والتنمية، قد تؤدى إلى تراجع شعبية الرئيس التركي، لا سيما وأنها تعتمد على التخصص والحرية التنظيمية في اختيار المجال الذي يناسب كل عضو، إضافة إلى مؤسسات متخصصة في مجالات متعددة.
كما أن الأحزاب الجديدة يرشح أن ينضم إليها عدد معتبر من النواب المحسوبين على العدالة والتنمية في الوقت الراهن، خصوصا أنها تتبنى نفس السردية التي تبناها حزب العدالة والتنمية في أيامه الأولى، "أحزاب ديمقراطية محافظة لكل تركيا"، لذلك فهي لا تقدم أيديولوجيا معينة.
خلاصة القول: "حزب بابا جان وحزب أحمد داود أوغلو حال تأسيسهما سيكونان التحدي الأكبر أمام العدالة والتنمية، لأنهما يحظيان بسمعة معتبرة في الشارع السياسي التركي فضلا عن أنهما قد يقوضان وحدة حزب العدالة والتنمية وقاعدته الجماهيرية بجذب كتل نيابية وتصويتية ترفض خيارات وتوجهات الرئيس التركي رئيس حزب العدالة والتنمية".
ويبقى السؤال مطروحاً كيف سيكون شكل حزب العدالة والتنمية في الأيام المقبلة؟
aXA6IDMuMTQ3LjY1LjQ3IA== جزيرة ام اند امز