الجهود الإماراتية الصادقة في إحلال السلام وإنهاء حالة الانقسام التي تعرقل كل جهود التسوية في أفغانستان لم تتوقف يوما ما.
تستضيف قطر مكتبا لحركة طالبان منذ عام 2013، ومع ذلك فشلت بشكل ذريع، وربما متعمد، في دفع طالبان إلى الجلوس على مائدة التفاوض، بل عادت طالبان أقوى على الأرض مما كانت عليه قبل استضافتها، وقويت شوكتها وأصبحت من وقتها رقما صعبا في المعادلة الأفغانية المعقدة لا يمكن تجاهله، وهو ما أطال أمد الصراع الأفغاني، ودفع الإدارة الأمريكية لتغيير استراتيجيتها في أفغانستان نحو مزيد من الوجود والانتشار، بعد أن كان التوجه هو مزيد من الانسحاب، بعد الاعتراف المتأخر بأن انسحابا سريعا لا يشكل حلا، وربما لم تكن لدى الدوحة أي رغبة من الأساس في أن تترك طالبان مواقع القتال وساحات الحرب وتجلس على موائد المفاوضات، أو أن ترى سلاما في بلد مزقته الحروب والنزاعات، فبالتأكيد هناك مآرب أخرى من استضافة الدوحة لمكتب طالبان ليس من بينها الرغبة في دفع جهود السلام بتلك المنطقة المشتعلة من العالم، وقد يكون من بينها مغازلة الولايات المتحدة الأمريكية والإيحاء بأنها قادرة على مساعدتها في إنهاء أطول حرب في التاريخ الأمريكي، وأنها قادرة على ترتيب أي محادثات سلام مستقبلية إذا ما أرادت واشنطن الانسحاب من هناك في أي وقت، وهذا لم يحدث، وكان طبيعيا ألا يحدث لأن استضافة قطر مكتبا لحركة طالبان لم يكن جزءا من جهد أوسع لتسيير محادثات السلام في أفغانستان، كما حاول مسؤولوها تبرير قرارهم آنذاك، وإنما كان بابا لدعم الحركة وغطاءا لدعم أيديولوجيتها، وهو السيناريو الذي تكرر حرفيا مع حركة حماس حين فتحت لها قطر مكتبا في الدوحة تحت غطاء دفع محادثات السلام في الشرق الأوسط، ومحاولة جمع شمل الفلسطينيين وإنهاء فرقتهم، لكن في النهاية حدث العكس، تعمق الانقسام بين الفلسطينيين من وقتها، وترسّخ الانفصال بين الضفة وغزة، وأحكمت حماس قبضتها على ما تحت أيديها من أرض وزادت سيطرتها على من يسكنها من شعب، وتعقّدت مباحثات السلام حتى بدا أنه لا سبيل لاستعادتها.
الجهود الإماراتية الصادقة في إحلال السلام وإنهاء حالة الانقسام التي تعرقل كل جهود التسوية في أفغانستان لم تتوقف يوما ما، وما تم إعلانه، أول أمس، كان مجرد تتويج لجهود كبيرة وطويلة كانت تتم في صمت وبلا ضجيج، فاهتمام الإمارات بالمسألة الأفغانية ليس طارئا
الفشل القطري المتعمّد في الملف الأفغاني قابله نجاح إماراتي بدت بوادره واضحة ومؤشراته جلية، كان آخرها ما تم إعلانه أول أمس من استضافة الإمارات، بمشاركة المملكة العربية السعودية، وحضور باكستان مؤتمرا للمصالحة الأفغانية بين حركة طالبان والولايات المتحدة الأمريكية، وذلك في إطار الجهود الإماراتية المبذولة لتحقيق المصالحة الأفغانية وإعادة الأمن والاستقرار بأفغانستان، وأثمرت هذه المباحثات، التي استمرت على مدى يومين في أبوظبي، نتائج إيجابية ملموسة لجميع الأطراف، وفقا لما صدر من بيان أعقب هذه الاجتماعات.
هناك ثلاثة أسباب تدعوني للتيقن من نجاح جهود الوساطة الإماراتية في إحلال السلام في أفغانستان، وإنهاء أكثر من ثلاثة عقود من الحرب المستمرة التي خلّفت حالة غير مسبوقة من الانقسام السياسي والاجتماعي والعرقي، وحالة كبيرة من عدم الاستقرار ضربت المنطقة برمتها.
السبب الأول يتمثل في أن الجهود الإماراتية الصادقة في إحلال السلام وإنهاء حالة الانقسام التي تعرقل كل جهود التسوية في أفغانستان لم تتوقف يوما ما، وما تم إعلانه أول أمس كان مجرد تتويج لجهود كبيرة وطويلة كانت تتم في صمت وبلا ضجيج، فاهتمام الإمارات بالمسألة الأفغانية ليس طارئا، وسعيها لإحلال السلام هناك وإنهاء معاناة الشعب الأفغاني لم يكن وليد الأمس، فحجم المساعدات الإماراتية المقدمة إلى أفغانستان، خلال الفترة ما بين عامي 2012 و2017، تجاوز قيمة 433 مليون دولار أمريكي، هذا بالإضافة إلى مشروع الوحدات السكنية الذي تم افتتاحه بحضور الرئيس الأفغاني في أبريل الماضي بقيمة 710 ملايين درهم، ولم تقدم الإمارات مساعدات تنموية فقط لأفغانستان لكنها قدمت أيضا دماء أبنائها ثمنا لاستقرار جيرانها، وكان آخرهم شهداؤها المكلفون بتنفيذ المشروعات الإنسانية والتعليمية والتنموية في أفغانستان، والذين قضوا نحبهم في العاشر من يناير من العام الماضي نتيجة التفجير الإرهابي الذي وقع بمقر محافظ قندهار.
وعلى صعيد المحافل الدولية كانت الإمارات ولا تزال ضيفا رئيسيا ودائما على كافة الاجتماعات الدولية المعنية بأفغانستان، ودائما ما تستغل هذه المناسبات لتجديد التزامها بمواصلة واجبها الإنساني تجاه الشعب الأفغاني، بما في ذلك دعم جهود الحكومة الأفغانية في إرساء المصالحة والإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية واسعة النطاق، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر مشاركتها في الاجتماع الذي عقدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في السادس من ديسمبر الجاري في مقرها بنيويورك حول "الحالة في أفغانستان"، والذي أكدت فيه الإمارات دعمها الكامل للمصالحة السياسية التي تقودها الحكومة الأفغانية، مشددة على ضرورة المشاركة الإيجابية لجميع أطياف المجتمع الأفغاني لضمان إنجاح هذه العملية، وأكدت التزامها بمساعدة الشعب الأفغاني في تحقيق رؤيته نحو السلام والاستقرار في مختلف المجالات، وقبلها شاركت الإمارات في اجتماع المسؤولين رفيعي المستوى الخاص بأفغانستان، الذي عُقِد في الثامن من نوفمبر الماضي، في مقر الأمم المتحدة بجنيف، بمشاركة أكثر من 50 دولة وعدد من المنظمات الدولية، ولم تكن أفغانستان غائبة عن جدول أعمال المسؤولين الإماراتيين أثناء مشاركتهم في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، حيث أجرى الدكتور أنور بن محمد قرقاش وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية مباحثات مع صلاح الدين رباني وزير الخارجية الأفغاني، تضمَّنت العلاقات الثنائية وسبل تطويرها وتعزيزها في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، وتبادل المواقف المشتركة ووجهات النظر حول تطورات عدد من القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك المطروحة على جدول أعمال الأمم المتحدة.
السبب الثاني يتمثل في أن الإمارات تستند في وساطتها الجديدة في النزاع الأفغاني إلى تجربة ناجحة في الوساطة في مناطق نزاع كثيرة، نجحت فيها في نزع فتيل بعض الصراعات التي كان يبدوا أن لا أمل في حلها، وكان آخرها الدور المحوري الذي لعبته الإمارات لفض النزاع التاريخي بين إريتريا وإثيوبيا الذي دام نحو عقدين من الزمان وخلّف عددا من القتلى يتجاوز الخمسة عشر ألف قتيل، وخلف فوق ذلك صدعا كبيرا في العلاقات بين الجارين كان يبدوا من المستحيل رأبه قبل تدخل الإمارات ومعها شقيقتها السعودية، وعندما تعانَقَ زعيما إثيوبيا وإريتريا في العاصمة الإريترية أسمرة في مطلع يوليو الماضي ووعدا بإنهاء حالة الحرب بين بلديهما؛ بدا الأمر للمراقبين انفراجا مفاجئا، لكن في حقيقة الأمر كان هذا التقارب بين البلدين تتويجا لمحادثات جرت عبر قنوات خلفية وغير معلنة استمرت لمدة عام، ولعبت فيها الإمارات دورا محوريا، الأمر الذي تجلّى في القمة الثلاثية التي جرت في أبوظبي بين إريتريا وإثيوبيا ودولة الإمارات العربية المتحدة في الرابع والعشرين من يوليو الماضي، ما يؤكد الدور التاريخي للإمارات في المصالحة التاريخية بين أديس أبابا وأسمرا.
السبب الثالث يتمثل في أن الوساطة الإماراتية تنطلق بالأساس من مبدأين، أولهما إنساني يحرص على دعم لكل جهد أو تحرك يستهدف تحقيق السلام والأمن والاستقرار في أية بقعة بالعالم حتى لو كانت تبدو بعيدة عن حدود الإمارات، وثانيهما واقعي يتحرى الأسباب التي تزيد من فرص نجاح الوساطة ويبتعد عن الأسباب التي يمكن أن تقلل من فرص نجاحها، وهذا ما يقتضي دراسة جيدة وواعية لبيئة الصراع محل الوساطة والأطراف الفاعلة فيه والأطراف الأخرى المؤثرة عليه وتلك التي تستطيع أن تلعب دورا في إنهائه، وهو ما يمكن أن نطلق عليه "الوساطة الذكية" التي تعظّم من عوامل نجاح المفاوضات ولا تستبعد أي طرف يمكن أن يكون فاعلا ومؤثرا فيها، ولا تترد في ضم أي طرف قد يكون غيابه معرقلا للتسوية أو يكون وجوده ضامنا للمصالحة، وفي موضوع المصالحة الأفغانية تجلى ذكاء الوساطة الإماراتية السعودية في حرصها على ضرورة إشراك باكستان لدورها المحوري في ضمان أي عملية سلام قد تسفر عنها المفاوضات وقدرتها على التأثير على بعض أطراف الصراع.. لذا تبدو إشارات الترحيب بهذه الوساطة جلية، كما تبدو علامات التفاؤل واضحة على جميع المعنيين بإنهاء هذا الصراع الذي طال أمده، وهو ما عكسته تصريحات نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية روبرت بالادينو، التي قال فيها إن موقف بلاده أن الحرب في أفغانستان "ستنتهي فقط عندما يجلس الأفغان مع بعضهم باحترام متبادل لمناقشة خارطة طريق سياسية لمستقبلهم" ، فيما غرّد رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان عبر حسابه على موقع "تويتر" قائلا إن بلاده "ستبذل كل ما بوسعها لإحراز تقدم في عملية السلام".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة