تقوم الدولة الوطنية الحديثة على محددات أساسية بإطار جغرافي ثابت وسلطة وشعب، في ظل تفاهمات دستورية ومفاهيم إنسانية وسياسية واجتماعية
تقوم الدولة الوطنية الحديثة على محددات أساسية بإطار جغرافي ثابت وسلطة وشعب، في ظل تفاهمات دستورية ومفاهيم إنسانية وسياسية واجتماعية، وانطلاقاً من كونها حقيقة موضوعية أصبح التعامل معها من مبدأ ضروريات الواقع، ولعله من المفيد قراءة متأنية لكتاب الدولة الوطنية-صناعة النهوض للدكتور علي راشد النعيمي، لاستخلاص أهمية مرتكزات الدولة الوطنية وسيادتها وأسس المواطنة فيها، والتوجه نحو دلالاتها وتجلياتها، وضمن رؤية وتحرر العقل المعاصر بعيداً عن الهيمنة التاريخية، أو التحكم بمصائر الشعوب والمجتمعات وتوظيفات الأديان لمفاهيم خاصة، وتحرر المجتمعات المسلمة من الوصايات وعمليات الاستتباع والهيمنة والاستلاب.
يمكن استخلاص الأفكار المضيئة الصائبة في كتاب الدكتور النعيمي، والتي أوضحت معاني ومضامين دولة الوطن والمواطنة نهجاً وانتماء، وهي التي ترسخ بالحكمة المتوازنة والإرادة الحرة والمسؤولية الكاملة حماية وكرامة كل مواطن يعيش في كنفها
وقد أوضح الدكتور النعيمي في الفصل الأول رؤيته العلمية لواقع الدولة الوطنية ودولة الخلافة؛ أنه "في سبيل إعادة الخلافة تم إشعال حروب أهلية وإسقاط نُظم والقيام بانقلابات، كل ذلك من أجل هدف واحد محدد هو إعادة تأسيس دولة الخلافة، لذلك فإن دولة الخلافة في عصر يسوده مفهوم الدولة الوطنية هو نوع من التضليل والتزييف الديني والتاريخي". وفي الفصل الثاني ركز المؤلف النعيمي على أساسيات وأصول قراءة التاريخ، ويرى ضرورة "إعادة النظر في موقفنا وتعاملنا مع تاريخنا وتراثنا، وتحويله إلى مركز انطلاق وليس دائرة انغلاق، والمسألة التي ينبغي التوقف عندها أن كثيراً من المسلمين خلطوا بين التاريخ والدين، وصار تاريخهم جزءاً من دينهم فلم يعودوا قادرين على الفصل بين ما هو بشري في التاريخ وما هو ديني، بين فعل البشر وفعل الله عز وجل، بين ما جاء به الوحي وما فهمه وطبقه الناس، وأن بعض الفقهاء نادوا بتحديد الثوابت والمتغيرات كانوا هم أول من أربك المشهد والخلط بصورة فوضوية بينهما، لا سيما في أطروحات يوسف القرضاوي الذي أسهم بالقلم والمنبر في إشعال الفتن في العالم العربي نتيجة خلطه الممنهج بين الثابت في الدين والمتغير التاريخي والنسبي في التراث، إلى حد جعل المتغير ثابتاً والثابت متغيراً".
وفي الفصل الثالث أكد الدكتور النعيمي "أن الاندماج الثقافي لا يعني التخلي عن الدين، متسائلاً لماذا معظم المسلمين المعاصرين دون غيرهم من العالَمِين فشلوا في إيجاد صيغة للتوفيق بين الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة والمحافظة على دينهم وعقيدتهم؟ ولماذا معظم المسلمين المعاصرين دون باقي المهاجرين يظلون في عزلة عن مجتمعات هِجَرتِهم لأجيال متتالية؟ ولماذا يزداد العداء لمجتمعات هجرتهم مع الجيلين الثاني والثالث اللذين ولدا في هذه المجتمعات؟ ويجيب الدكتور النعيمي على هذا التساؤل قائلاً: بمنتهى البساطة ودون إخلال بالحقيقة أن هؤلاء المسلمين المعاصرين المهاجرين لم يستطيعوا التمييز بين الدين والثقافة، لم يعرفوا الفارق بين الإسلام وتقاليد وعادات مجتمعاتهم التي هاجروا منها، ولم يدركوا أن الثقافة التي اكتسبوها من المجتمعات التي دفعتهم للهجرة ليست هي الدين، إن بعض المسلمين خلطوا بين الدين والثقافة، بين العقيدة والعادات والتقاليد حتى صار الدين ثقافة والعادات عقيدة".
وتطرق الدكتور النعيمي إلى خطورة الفقه المستورد وفتاواه البعيدة عن جوهر الدين، بقوله "الأعداد التي ذهبت إلى تنظيم داعش الإرهابي من الدول الأوروبية تربت وتشكّل عقلها على فقه مستورد من مجتمعات أخرى، قادها إلى حالة من الانغلاق والغربة عن مجتمعها ومن ثم تكفيره والهجرة منه إلى ديار الإسلام المزعومة، وهي دولة داعش المتوهمة، كما رسمت لهم الصورة المثالية للإسلام التي قدمها التدين المستورد، وحيال تلك الأزمات الواقعة والمتفاقمة وضع الدكتور النعيمي حلولاً عملية وجذرية، أبرزها "تحرير المجتمعات المسلمة من التدين المستورد أو الفقه المستعار من خلال تكوين كوادر علمية وفقهية، وتحقيق الاستقلال المالي للمساجد والمراكز والمنظمات الإسلامية خارج العالم الإسلامي، وأن يكون الشأن الديني للمجتمعات المسلمة منظماً بقوانين الدول التي توجد فيها، وتحريرها من سيطرة الجماعات السياسة عليها".
واستعرض النعيمي في الفصل الرابع الإخوان والخطيئة الكبرى، موضحاً دور الجماعات التي قامت لهدم الدولة واستلاب وتشويه المسلمين، فكانت إرهاصات التنظيم الإرهابي الأول في هيئة الشبان المسلمين ومن ثم تحولها إلى جماعة الإخوان المسلمين في عام 1928 على يد مؤسسها حسن البنا، وتنبأ الشيخ عبدالوهاب الحصافي أن هذه الجماعة ستكون جماعة فتنة وتمزيق الأمة، وعندما علم الشيخ الحصافي بنية البنا بتأسيس جماعة الإخوان رفض الفكرة في مهدها وحذره من شرها، وقال البنا عن الجماعة حين رفض الحصافي لها "نصح فأخلص النصيحة وأرشد فأحسن الإرشاد"، ويحكي مؤرخو الطريقة الحصافية أنه مع بدء معرفة جماعة الإخوان طريق العنف، قال الشيخ الحصافي "ستكون فتنة تشتكي منها البلاد والعباد ثم رفع يديه داعياً الله بدعوات كانت هي: اللهم إنهم فتنة سيشتكي منها أهل الأرض وتضج منها ملائكة السماء، اللهم وسلط جماعته على أنفسهم"، وكان الإخوان هم الرحم الذي خرجت منه جماعات العنف والإرهاب التي فككت الدول وشرذمتها وأدخلتها في دوامات متوالية، من تطرف وعنف وإرهاب وحروب مستعرة، وضرب الإخوان مثالاً في سرقة المال العام وتنفيذ عمليات الاستيلاء على ما ليس لهم بحق، فسرقة المال العام الليبي على يد قيادات التنظيم الذين تولوا السلطة بعد مقتل القذافي لا تحتاج إلى مزيد توضيح أو تفسير، وعشرات المليارات تم تهريبها إلى تركيا باسم أعضاء التنظيم وحلفائهم من الجماعات التي نشأت من رحم التنظيم.
أما الفصل الخامس فقد ركز النعيمي على مفاهيم بناء الأوطان الذي يبدأ بالتعليم، ثم تحدث عن تعليم الماضي وتعليم المستقبل، وتعليم القيم أم تعليم المعلومات، وتعليم التسامح أم تعليم الكراهية، ومنهجية التعليم الديني بما في ذلك إصلاح التعليم الديني في المجتمعات المسلمة بمعنى تجديد فَهْم الدين، مشيراً إلى أن رؤية قيادة الإمارات للتعليم يجب أن تكون للمستقبل مع الحفاظ على مقومات الهوية من الدين والقيم والثقافة الوطنية، وقال الدكتور النعيمي في هذا الإطار: "التعليم بناء الوطن، وهو جوهر تكوين المواطن، وهو الاستثمار الحقيقي الذي تقوم به الدول لترسيخ أركانها وتعظيم قدرات شعبها؛ لأنه يركز على أهم ما تملك الدول وهو الإنسان، وهذا ما دفع قيادة دولة الإمارات أن تعد شعبها لمرحلة ما بعد النفط، وأن تستعجل الدخول في هذه المرحلة من خلال الاستثمار في كل مجالات الاقتصاد، التي تعتمد على قدرات الإنسان ومهاراته بما فيها الذكاء الاصطناعي، وهذا التوجه جاء نتيجة نجاح الخطط التعليمية التي وضعها المؤسس الشيخ زايد رحمة الله عليه".
استخلاص الأفكار المضيئة:
يمكن استخلاص الأفكار المضيئة الصائبة في كتاب الدكتور النعيمي، والتي أوضحت معاني ومضامين دولة الوطن والمواطنة نهجاً وانتماء، وهي التي ترسخ بالحكمة المتوازنة والإرادة الحرة والمسؤولية الكاملة حماية وكرامة كل مواطن يعيش في كنفها، ومن خلال متابعاته الواسعة التي استفاضت بوثائق مهمة تشكل مرتكزاً للمهتمين والدارسين.. في قضايا عديدة وبغية استجلاء الحقيقة عرضها النعيمي بكل دقة ونباهة، وباصطفاءٍ تراثي وإنساني ومعاصرة خلاقة، وضع النعيمي الحلول الإجرائية النافذة لمواجهة التحديات التي تعترض الدولة الوطنية، فالسيادة الوطنية الشاملة لحقوق الأفراد ومصالحهم تعد من الأولويات لبناء التقدم والحضارة.
وما يمكن التأكيد عليه أن إحدى الإشكاليات التي تتفرع عن مفهوم "الأمة الديني" أنها لا تعترف بحدود ثابتة للدولة، فحدود الدولة متحركة تمتد على امتداد أو تمدد الحركات الإسلامية في أرجاء المعمورة، غير أن أدبيات الإسلاميين عموماً لا تستفيض بذكرها وغالباً ما تتجاهلها باستثناء التنظيمات الإرهابية والحركات المتطرفة الجديدة التي تعتمد الهيمنة أينما حلّت وتوسعت، وكما أن الذمية في إطار الدولة الوطنية تعتمد على مفهوم المواطنة وعلى أسس اجتماعية وثقافية معقلنة، بما يتطلب ذلك التحول من اعتبار الدين أساس المواطنة ونقلة نوعية باتجاه مرتكزات المواطنة للدولة الحديثة.
الدولة الوطنية مغايرة تماماً عن دول التجمع العالمي عبر هيئة الأمم المتحدة، باعتبار هذه الهيئة العالمية التي تمثل أكبر تجمع عالمي أضحت مسلوبة الإرادة وما عادت المبتغى الإنساني للأمم وشعوب العالم، وهكذا غدت الأمم المتحدة حاجزاً أمام ما تبتغيه دولة المواطنة المسؤولة بدورها عن مصالح شعبها وثوابت جغرافيتها وضمن اتساق مكوناتها الحقوقية، وقد لاقت قبولاً واستحساناً لدى السياسيين والمفكرين العرب إبان الحرب العالمية الأولى، وهذا القبول لم يتجاوز حدود القوى الليبرالية حديثة العهد وبعض النخب المحلية السائدة آنذاك، والتي نجح تحالفها في تحقيق مرحلة سياسية ليبرالية خاصة في الأربعينيات في عصر مصر وبعض بلدان الشرق العربي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة