تميز التجربة الإماراتية في مكافحة التطرف والإرهاب لا يقتصر فقط على شمول المواجهة ولكنه يمتد أيضا إلى ديمومتها واستمراريتها.
أنهت أمس مجموعة الرؤى الاستراتيجية "روسيا والعالم الإسلامي" فعاليات اجتماعها الدوري الرابع في مدينة "محج قلعة" عاصمة جمهورية داغستان، الاجتماع الذي كان مخصصا لبحث آفاق التعاون بين روسيا والدول الإسلامية في سياق التهديدات الإرهابية المتزايدة والتحديات الأمنية، وركز تحديدا على مناقشة الإشكاليات الحالية للعلاقات الدولية، والوضع في الشرق الأوسط، والقضايا التي تعيق تطوير العلاقات بين روسيا ودول الشرق الإسلامي، ودور التعليم كأداة رئيسية لمكافحة انتشار أفكار الإرهاب والتطرف في المجتمع، وانتهى الاجتماع إلى التأكيد على أهمية التعاون بين العالم الإسلامي وروسيا على الصعد كافة، لا سيما في مجال مكافحة التطرف والإرهاب، حيث شدد المشاركون على أن "مكافحة التطرف تمثل أهم مكونات الحياة المعاصرة"، وطالبوا بـ"إجراءات تركز على المجال التعليمي للعمل على منع تفشي ظاهرة الإرهاب"، وضرورة التعاون في مجال التعليم لتحصين الشباب من مخاطر التنظيمات الإرهابية التي تنشط في محاولات تجنيدهم، حيث أيد المشاركون بالإجماع اقتراحا بإنشاء مدرسة روسية إسلامية مشتركة لتربية قادة جيل صاعد، تسهم، ليس فقط في الرفع من فعالية آليات مكافحة الإرهاب، بل الأهم أنها قد تساعد على تربية وتأهيل جيل جديد وكوادر قادرة على منع ظهور الأفكار الراديكالية وانتشارها.
مواجهة ظاهرة التطرف والإرهاب أصبحت على رأس أولويات صناع القرار في الإمارات ومحركا أساسيا لسياستها الخارجية، ما يعكس رؤية وإرادة إماراتية قل نظيرها للتصدي لهذه الظاهرة وتخليص العالم منها، وصناعة مستقبل للشعوب محصن من خطر الإرهاب
تجربة الإمارات في مواجهة التطرف والإرهاب كانت حاضرة وبقوة في هذا المحفل الدولي البارز، فكثير من التوصيات والاقتراحات التي انتهى إليها المؤتمر كانت الإمارات سباقة في الدعوة إليها أو تبنيها، لذا كانت من أبرز الكلمات في هذا الاجتماع كانت كلمة الدكتور علي راشد النعيمي رئيس المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة، ومرد تميز هذه الكلمة هو تأكيدها على عالمية التهديد الإرهابي، باعتباره الخطر الأول الذي يهدد الأمن والاستقرار الدوليين، وأن التصدي له يجب أن يكون مسوؤلية عالمية و"أن مكافحته يجب ألا تتم على أسس سياسية أو مذهبية وإنما على أسس علمية"، فكثير من تجارب مكافحة التطرف والإرهاب التي انطلقت من منطلقات سياسية ومذهبية انتهت بتعزيزه وتوسيع دائرة انتشاره بدلا من تحجيمه أو القضاء عليه.
الدكتور النعيمي استند في كلمته بكل تأكيد على تجربة إماراتية فريدة وناجحة في مكافحة التطرف والإرهاب، فدولة الإمارات كانت من أوائل الدول التي أدركت مخاطر التطرف وما يقود إليه بالضرورة من إرهاب، لذ انتبهت مبكرا إلى أهمية إيجاد استراتيجية شاملة لمواجهة الإرهاب، لا تقتصر فقط على المعالجات الأمنية ولكن تتجاوزها نفاذا إلى جذور الظاهرة، كضرورة تجفيف المنابع الفكرية والثقافية التي تغذي التطرف وتحرض على الكراهية على المستوى المحلي وعلى المستويين الإقليمي والدولي، ومن ثم كانت الإمارات من أوائل الدول التي دعت إلى ضرورة أن تواكب الحملات الأمنية ضد الإرهابيين، حملات فكرية تفند أكاذيبهم، وتكشف عن أهدافهم الحقيقية، إيمانا منها بأن الإرهاب لن ينهزم إلا بهزيمة الفكر الذي يحرض عليه.
جهود الإمارات في مكافحة التطرف والإرهاب أكبر من الحديث عنها في مقال قصير، ولكن تكفي فقط الإشارة إلى بعض النماذج التي تشير إلى شمول المواجهة التي تبدأ من الفكر الفاسد والإيديولوجيات المتطرفة التي تغذي العنف والكراهية، وتحرض على القتل والدمار، وتمتد إلى التمويل ووسائل التجنيد والدعاية وتنتهي بالتنظيمات الإرهابية المسلحة، لذا اعتمدت الإمارات استراتيجية شاملة لمواجهة الجوانب المتعددة للظاهرة الإرهابية عبر ثلاثة محاور أساسية، هي المحور القانوني والتشريعي، والمحور الديني والثقافي، والمحور الإعلامي والاجتماعي.
ويمكن هنا الإشارة سريعا لبعض الأمثلة فقط لهذه المواجهة الشاملة، فالإمارات تستضيف وترعى مجلس حكماء المسلمين، الذي يهدف إلى تحقيق السلم والتعايش في العالم الإسلامي ومحاربة الطائفية، كذلك تستضيف المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة، والذي يلعب دورا مهما في تجديد الخطاب الديني من خلال إيجاد قواعد وأصول وأحكام تعزز من قيم المواطنة والتسامح والتعايش المشترك ونبذ الإرهاب والتطرف، كذلك تعد الإمارات من أبرز الدول الداعمة للمركز الدولي للتميز لمكافحة التطرف العنيف "هداية"، والذي تستضيفه عاصمتها أبوظبي، كما تعتبر من الأعضاء المؤسسين لمركز "صواب" الهادف لمواجهة أكاذيب "داعش" عبر الإنترنت وفضحها عبر إطلاق حملات توعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي بما يسهم بالتصدي للخطاب المتطرف، كما تترأس الإمارات بالاشتراك مع الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة مجموعة العمل المعنية بالتواصل الاستراتيجي التابعة للتحالف ضد "داعش"، وفي تحرك منسق وسريع إزاء المخاطر والتهديدات الإرهابية التي تنطلق من الفضاء الإلكتروني استضافت الإمارات في مايو 2017 المؤتمر الدولي لتجريم الإرهاب الإلكتروني، الذي صدر عنه "إعلان أبوظبي حول تجريم الإرهاب الإلكتروني".
وفي جهود مكافحة تمويل الأنشطة الإرهابية وتجفيف منابعها قدمت الإمارات مثالا يحتذى، وكان محل إشادة دولية بإصدارها في أكتوبر الماضي قانون "مواجهة جرائم غسل الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب وتمويل التنظيمات غير المشروعة"، وقد سبق صدور هذا القانون الاتحادي قيام عديد من الجهات الإماراتية المعنية بتحديث أنظمة قواعدها المتعلقة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ضمن برمجة مؤسسية في جهود تحديث البنية التنظيمية المالية، وشملت أيضا تشريعا جديدا يحكم عمل مصرف الإمارات المركزي ونشاط المؤسسات المالية، الأمر الذي يعكس نهجا مؤسسيا لتحديث القوانين المحلية وضمان مواءمتها للمعايير الدولية في مجال مكافحة الإرهاب.
وفي سبل المواجهة الأمنية استغلت الإمارات كافة المنابر الدولية للتأكيد على أهمية تعزيز التنسيق والتعاون الفاعل على المستوى الدولي، بما في ذلك تطوير شراكات دولية واسعة ووثيقة ترمي إلى مكافحة الخطاب الإرهابي، وتعزيز تبادل المعلومات والمشاركة الأفضل للممارسات المعمول بها بين الدول لتحسين جهود المكافحة، وقبل كل ذلك ومعه وبعده قامت الإمارات من خلال الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف بغرس وتعزيز قيم إنسانية سامية كالاعتدال وقبول الآخر والتعايش والتسامح والوسطية في المجتمع الإماراتي، باعتبار أن هذه المنظومة القيمية هي الحصن الرئيسي وحائط الصد الأساسي في مواجهة الأفكار المتطرفة التي تتربص بالمجتمعات العربية والإسلامية، وهنا لم تقتصر الإمارات في جهود مكافحتها للتطرف على تحصين الشباب من الخطاب الإرهابي فقط، بل حرصت أيضا على أن يكون الشباب في مقدمة من يقود الجهود الرامية لمنع التطرف، فقامت بتأسيس مجالس للشباب لتشكل جسرا للتعبير عن آراء الشباب وطموحاتهم.
تميز التجربة الإماراتية في مكافحة التطرف والإرهاب لا يقتصر فقط على شمول المواجهة ولكنه يمتد أيضا إلى ديمومتها واستمراريتها، فلا يكاد يخلو شهر من شهور السنة من تنظيم الإمارات فاعلية دولية أو إقليمية تعني بمكافحة التطرف والإرهاب، أو استضافة مسؤولين دوليين على علاقة بهذا الملف، مثل استقبال وزيري داخلية وخارجية الإمارات في لقاءين منفصلين وكيل الأمين العام لمكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب في سبتمبر الماضي، لبحث تعزيز الجهد الدولي في مكافحة الإرهاب، أو مشاركة مسؤولين إماراتيين بارزين في اجتماعات دولية معنية بالبحث عن حلول لهذه الظاهرة، مثل مشاركة رئيس اللجنة الوطنية الإماراتية لمكافحة الإرهاب في المؤتمر رفيع المستوى، والذي عقدته الأمم المتحدة في يونيو الماضي لرؤساء أجهزة مكافحة الإرهاب بالدول الأعضاء.
كل هذا يعني أن مواجهة ظاهرة التطرف والإرهاب أصبحت على رأس أولويات صناع القرار في الإمارات ومحركا أساسيا لسياستها الخارجية، ما يعكس رؤية وإرادة إماراتية قل نظيرها للتصدي لهذه الظاهرة وتخليص العالم منها، وصناعة مستقبل للشعوب محصن من خطر الإرهاب، المفارقة الملفتة هنا أن الإمارات من أقل دول العالم تعرضا لخطر الإرهاب وأقلها تضررا منه، لكنها من أكثرها حرصا على مكافحته واجتثاثه من جذوره أينما كان موضعه، ما يؤكد نهجها الراسخ القائم على قيم الخير والسلام والعطاء الإنساني.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة