قواعد اللعبة الجيوسياسية الجديدة تكتب الآن، ليس بتحقيق نصر عسكري هنا أو هناك، وليس بتوقيع اتفاقيات ومعاهدات فحسب، بل عبر معالم صراع تكنولوجي عالمي محتدم.
تتصارع فيه القوى العظمى على شظايا الهيمنة الرقمية، تظهر دولةٌ خليجية صغيرة المساحة، عملاقة الطموح، كـ “مهندس استراتيجي" يُعيد تعريف قواعد اللعبة كلها، وقد تمكن من تحويل الصحراء الذهبية إلى مختبرٍ عملاق حيث تندمج البيانات مع الطموحات، وتتحول الثروات النفطية إلى استثماراتٍ تُقدر بمليارات الدولارات في مراكز بياناتٍ ذكية وأبحاث الذكاء الاصطناعي. هنا في دولة الإمارات، تلتقي خرائط الشرق والغرب مع الشبكات العصبية الاصطناعية، تبني منها جسراً رقمياً عالميا، مُعلنةً أن المستقبل لن يُكتَب بالبترول، بل بالكود البرمجي. برؤية 2031 الإماراتية.
خبراء التكنولوجيا يقولون الان أن الذكاء الاصطناعي أصبح أداة رئيسية لتطوير أغلب القطاعات، بدء من الطب والطاقة والمناخ والدفاع العسكري، وصولا إلى البحث العلمي، وقد علمنا أن دولة الإمارات وضعت قطاع الذكاء الاصطناعي كأولوية وطنية عليا، مستهدفة أن يحقق هذا القطاع مساهمة كبيرة بنسبة 20% من ناتجها المحلي الإجمالي غير النفطي بحلول عام 2031، وتعمل الدولة على بناء بنية تحتية قوية تشمل مراكز بيانات محكمة بالأمان، وشبكات حوسبة متقدمة، وفوق ذلك، تدرك دولة الإمارات أهمية حماية بياناتها الحساسة وتقنياتها المتقدمة، فتمكنت من تطبيق معايير صارمة للأمن السيبراني، التي قد تستغلها جهات ودول أخرى للتجسس أو التخريب.
لاحظ الخبراء الخطوات الاستباقية التي تقوم بها دولة الإمارات عادة، فالدولة تنتهج وضع الاستراتيجيات القائمة على خطط وجداول عمل منسقة واحراز نتائج متقدمة، فلفتت زيارة الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، نائب حاكم أبوظبي، إلى واشنطن في مارس 2025، انتباه قطاع الذكاء الاصطناعي العالمي كما لفتت انتباه المجتمعين السياسي والاقتصادي العالمي، حيث اشتملت "زيارة العمل" على لقاءات رفيعة المستوى مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وعدد من كبار المسؤولين، بينهم وزير التجارة "هوارد لوتنيك"، ومستشار الأمن القومي "مايكل والتز"، ومدير وكالة المخابرات المركزية "جون راتكليف"، وتركزت المحادثات على تعزيز التعاون في مجالات الذكاء الاصطناعي، والبنية التحتية، والطاقة، والرعاية الصحية، مع الإعلان عن اتفاقيات ضخمة مثل انضمام شركتي "إنفيديا" و"إكس إيه آي" إلى "الشراكة في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي" الإماراتية-الأمريكية، وإبرام مشروع مشترك بقيمة 25 مليار دولار مع شركة "إنرجي كابيتال بارتنرز" الأمريكية للاستثمار في الطاقة المتجددة، كما وقعت حكومة أبوظبي مع "مايكروسوفت" و"كور42" اتفاقية لنظام سحابي سيادي يعزز الخدمات الحكومية الرقمية، ودللت الأرقام، ارتفاع حجم الاستثمارات الإماراتية في الولايات المتحدة، متجاوزة تريليون دولار، موزعة على قطاعات التكنولوجيا المتقدمة والطاقة والذكاء الاصطناعي.
بالطبع، الجميع يحاول الهيمنة على تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي أصبحت أحد أبرز محاور الصراع الجيوسياسي في القرن الحادي والعشرين، حيث تتنافس القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي على تطوير منصات ذكاء اصطناعي تُحدد ملامح الاقتصاد العالمي والأمن القومي في المستقبل. وتُظهر البيانات أن الاستثمارات العالمية في هذا القطاع تجاوزت 1.3 تريليون دولار في 2024، مع توقعات بنموها إلى 3.5 تريليونات بحلول 2030، وتتصدر الولايات المتحدة المشهد عبر شركات مثل "ألفابت" و"مايكروسوفت"، بينما تُنافس الصين بقوة من خلال استراتيجيتها الوطنية للذكاء الاصطناعي 2030، والتي تهدف إلى تحقيق ريادة عالمية عبر دمج التكنولوجيا في قطاعات الدفاع والصناعة.
تبدو الصورة الآن، للمهتمين والمتابعين، أن دولة الإمارات، لا تريد المنافسة كجهة تحاول تعزيز موقعها كمركز إقليمي للتكنولوجيا، بل يبدو جليا أن دولة الإمارات ذاهبة نحو الاستحواذ الأكبر على هذا القطاع، عبر استثمارات ضخمة في مراكز البيانات والبنية التحتية السيادية، مثل مشروع "السحابة السيادية" مع "كور42"، وشراكة "إنفيديا"، والتعاون الإماراتي الفرنسي مؤخرا، بتوقيع اتفاقية تنفيذ مشاريع بقيمة 50 مليار يورو لتطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الطاقة والفضاء، كدليل على هذه الاستراتيجية الإماراتية التي تمنح الدولة مقعدا بين أساسيا في طاولة كبار المسيطرين على سوق الذكاء الاصطناعي الدولي.
لا شك أن دولة الامارات التي تستعد لاستقبال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مايو 2025، ومع تطلعاته بكسب ود الإمارات في شؤون الشرق الأوسط العالقة وكذلك في مجالات الدفاع العسكري أو الطاقة التقليدية، فإن الإمارات ستركز بشكل موسع على قطاعات الذكاء الاصطناعي، أشباه الموصلات، والبنية التحتية، مراهنة على خطتها الاستثمارية الضخمة بقيمة 1،4 تريليون دولار لمدة 10 سنوات في قطاعات حيوية بالولايات المتحدة، لتؤكد أنها شريك يمكن الاعتماد عليه لتحقيق الأهداف الصناعية والتكنولوجية العالمية. حيث تمتلك أيضا بنية تحتية متقدمة في مجال الطاقة النووية من خلال محطة براكة للطاقة النووية السلمية، وتسعى لأن تكون مركز عالمي للطاقة المتجددة والتكنولوجيا المستدامة، وإن التعاون مع الولايات المتحدة في هذا المجال يعزز مكانة الإمارات كدولة رائدة في المنطقة، ويتماشى مع أهداف واشنطن لتأمين سلاسل التوريد الحيوية وتحقيق الاستدامة البيئية.
تحافظ الإمارات، في ذات الوقت، على بناء وتطوير علاقة شراكة مع الشرق والغرب عبر مشاريع مشتركة في الروبوتات والذكاء الاصطناعي، فأنشأت الإمارات شركة "إم جي إكس" بقيادة صندوق "مبادلة"، وشركة "جي 42" لاستثمار 100 مليار دولار في الذكاء الاصطناعي خلال السنوات المقبلة، لبناء مراكز بيانات ذكية، وتوقيع مذكرات تفاهم تدعم الابتكار التكنولوجي، ويدلل هذا التنويع في الشراكات، حرص الإمارات البالغ على عدم الانحياز الكامل لأي طرف، مع التركيز على تعزيز مصالحها الوطنية، مثل جذب الاستثمارات الأجنبية ونقل المعرفة التكنولوجية، حيث تسعى الدولة إلى أن تصبح مركزًا عالميًا للابتكار التكنولوجي، عبر استثمارات في مشاريع مثل "مدينة دبي للإنترنت" و"مركز دبي للمشاريع التكنولوجية"، وهو هدف يتماشى مع رؤيتها الوطنية 2031 التي تهدف إلى زيادة مساهمة الذكاء الاصطناعي في الناتج المحلي غير النفطي إلى 20% .
تمكنت الإمارات بفضل الخطط والاستراتيجيات الفاعلة والخبرات والكفاءات المتقدمة، أن تعيد رسم مكانتها الدولية من دولة نفطية، إلى قوة تكنولوجية رائدة عالميا في مجالات الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة وغزو الفضاء والحكومات الذكية، بل أصبحت مثالا يحتذى به للدول الراغبة في اللحاق بركب التقدم التكنولوجي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة