تتسارع المتغيرات على المسرح السياسي العالمي بطريقة تؤكد أن العالم لا يعيش مجرد اضطرابات عابرة، بل يدخل فعلياً في مرحلة إعادة تشكيل كبرى للنظام الدولي..
ترتكز على تعددية القوى، وتراجع الأقطاب التقليدية، وبروز قوى جديدة قادرة على فرض رؤاها، أو على الأقل تعطيل هيمنة الآخرين.
في هذا السياق، تبرز عدة أحداث تؤكد ما تناولناه سابقاً من توجهات عالمية تعيد رسم خرائط النفوذ، وتعيد ترتيب أولويات السياسة الدولية، وتطرح أسئلة جديدة حول من يصنع القرار ومن يدفع الثمن.
أول هذه الأحداث وأكثرها تأثيراً يتمثل في تصاعد التوتر بين الصين والولايات المتحدة، ليس فقط في بحر الصين الجنوبي، بل في ساحة أوسع تشمل أفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. الولايات المتحدة، العائدة إلى نهجها التقليدي مع إدارة ترامب الثانية، تتبنى سياسة حافة الهاوية من جديد، مستخدمة الاقتصاد كسلاح ردع، بينما ترد الصين باستثمارات استراتيجية وحضور ناعم لكن عميق.
التنافس بين القوتين لم يعد محصوراً في جغرافيا محددة، بل أصبح اختباراً مفتوحاً لمن يستطيع صياغة البديل للنظام الليبرالي القديم، الذي بات يترنح تحت ضربات الداخل والخارج.
أما الحدث الثاني، فهو ما يجري في الشرق الأوسط، وتحديداً على جبهتي غزة وطهران. فالحرب في غزة لم تعد مجرد مواجهة بين إسرائيل وحركة «حماس»، بل تحولت إلى ساحة اختبار للموقف الأمريكي، وتحدٍ مباشر للمنظومة العربية، وتوتر متصاعد بين إيران والدول الغربية.
الجديد في هذه الأزمة أن المبادرات العربية، وعلى رأسها المبادرة السعودية المصرية الإماراتية، باتت أكثر جرأة، تطالب بوقف دائم لإطلاق النار، وربط إعادة الإعمار بتفاهمات سياسية أوسع. إيران، من جهتها، تحاول كسب الشرعية في الساحة الدولية، بينما تواجه أزمة اقتصادية داخلية خانقة، وضغوطاً روسية وصينية لعدم التصعيد المفتوح.
في أوروبا، لم تعد الحرب في أوكرانيا تتصدر وحدها المشهد، بل بدأت ملامح صراع داخلي أوروبي تظهر للعلن: صعود اليمين المتطرف، تصاعد السخط الشعبي من الدعم العسكري لكييف، والانقسام حول العلاقة مع الصين. فرنسا وألمانيا تحاولان إنقاذ مشروع «أوروبا الاستراتيجية»، لكن واقع الحال يقول إن الاتحاد الأوروبي يعاني من شلل استراتيجي، في ظل غياب قيادة موحدة، وفقدان القدرة على التأثير المستقل عن واشنطن.
في أفريقيا، تتعزّز حالة «الانفصال الهادئ» عن الغرب، حيث تتجه عدة دول أفريقية إلى تمتين علاقاتها مع روسيا والصين، وتفضيل الشراكات العسكرية والاقتصادية غير المشروطة على التعاون الغربي، الذي غالباً ما يرتبط بالإصلاحات السياسية. الانقلابات العسكرية لم تعد تُدان بالشكل التقليدي، بل تجد تفهماً شعبياً، في ظل خيبة الأمل من تجارب ديمقراطية هشة لم تحقق شيئًا يُذكر.
اللافت في مجمل هذه الأحداث، هو بروز دور الفاعلين غير التقليديين: منظمات إقليمية صاعدة، شركات تكنولوجيا عابرة للقارات، وتحالفات اقتصادية مرنة تتجاوز الدولة القومية. كما أن بعض القوى المتوسطة –مثل تركيا، والبرازيل، والهند– باتت تلعب دوراً أكبر في إدارة الأزمات، ما يعكس تحولاً في توزيع النفوذ لم يكن ممكناً قبل عقد من الزمان.
الساحة السياسية الدولية لم تعد تحكمها قاعدة «من لا يملك القوة لا يملك التأثير»، بل دخلت إلى معادلة معقدة عنوانها «من يملك الرؤية يملك المبادرة»، وهو ما يجعل من السياسة اليوم ساحة تنافس سرديات أكثر من كونها مجرد حسابات عسكرية أو اقتصادية. ومع عودة التكتلات الكبرى، وتصاعد النزاعات الهجينة، فإننا أمام مشهد عالمي مفتوح على كل الاحتمالات، حيث لم تعد هناك خطوط حمراء ثابتة، ولا قواعد لعبة متفق عليها.
ما يحدث الآن هو الفوضى، لكنها فوضى منظمة تعكس نهاية مرحلة وبداية أخرى. وهي لحظة تاريخية فارقة يجب أن تُقرأ جيداً من كل من يسعى إلى أن يكون جزءاً من صناعة المستقبل لا مجرد متلقٍ لأحداثه.
*لواء ركن طيار متقاعد
*نقلا عن صحيفة الاتحاد
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة