بعض الحقائق لا تحتاج إلى عدسات مكبّرة، بل إلى شجاعة في النظر، فتقرير خبراء الأمم المتحدة الأخير حول السودان لم يأتِ بجديد على من يعرفون خريطة الأدوار في هذه الحرب القذرة..
لكنه قدّم برهانًا دوليًا قاطعًا على أن حملات التشويه التي استهدفت الإمارات لم تكن سوى جزء من ماكينة تضليل إخوانية، اشتغلت بكفاءة مذهلة على تصدير الأكاذيب وتزييف الوعي العربي والدولي.
لقد بُنيت سردية الحرب السودانية على وهم خارجي لتغطية جريمة داخلية. فبينما كانت الخرطوم تحترق، انطلقت أبواق بورتسودان لاتهام الإمارات بتغذية الحرب وتوريد السلاح. لم يكن الهدف من تلك المزاعم كشف الحقيقة، بل التغطية على حقيقة واحدة فقط: جماعة الإخوان المسلمين تحالفت مع أمراء الحرب، وأشعلت الخراب ثم تخلت عن المسؤولية.
تقرير الخبراء الأمميين، الذي جاء بعد عامين من المتابعة والرصد، أسقط كل تلك الادعاءات. لم يُثبت دعمًا عسكريًا، ولا مشاركة إماراتية، ولا حتى شُبهة تواطؤ لوجستي. كل ما في الأمر أن الإمارات أرسلت مستشفى ميدانيًا إلى أم جرس التشادية، حيث لجأ مئات آلاف السودانيين هربًا من جحيم الحرب. لكن الجماعة التي اعتادت تحويل العمل الخيري إلى خيانة، حاولت بكل ما أوتيت من قبح أن تُلبس هذا الفعل الإنساني لباسًا عسكريًا.
ويا للمفارقة، فإن نفس الأصوات التي صمتت عن تهريب الأسلحة من ليبيا إلى دارفور لعقود، صرخت فجأة من وهم "شحنات" قادمة من أبوظبي لم يجد لها خبراء الأمم المتحدة دليلاً واحدًا.
ما حاولت جماعة الإخوان تصديره هو رواية عبثية يُراد لها أن تتحول إلى حقيقة بتكرارها. هكذا تعمل سردياتهم دائمًا: خذ مشهداً مفككاً، وامنحه عنواناً صادماً، ثم ضخّه في غرفهم الإعلامية المظلمة ونشرها على منصاتهم، وراقب كيف تنتشر الحكاية كالنار في هشيم القارئ الغاضب. لكن الأمم المتحدة هذه المرة كانت أقوى من ماكينة الكذب.
السؤال الآن: هل يكفي هذا التقرير لنزع فتيل الحملة؟ هل تعتذر حكومة الأمر الواقع في بورتسودان؟ هل تعيد حساباتها الأطراف التي روّجت لما وصفه التقرير الأممي بـ"ادعاءات بلا دليل"؟ للأسف، لا شيء يشير إلى ذلك.
فهناك دول اعتادت أن تبني علاقاتها الإقليمية على قاعدة "عداوة الإمارات رأس مال سياسي". وهناك جماعات تُدمن التلاعب بالحقائق، لأن الاعتراف بالفشل يعني سقوط كامل المشروع. مشروع التنظيم الدولي للإخوان، الذي فقد قواعده في مصر وتونس ويترنح في شمال اليمن، يبحث في السودان عن أنفاسه الأخيرة، فينشر الخراب ويختبئ خلف الأكاذيب.
ما يجري اليوم ليس خلافاً سودانياً إماراتياً، بل هو فصل متقدم من معركة الإخوان مع كل دولة قررت أن تقول "لا" للتنظيم. والإمارات التي وقفت منذ البداية إلى جانب الشعب السوداني، ودعمت المسار الانتقالي بعيداً عن استنساخ التجربة الإخوانية، أصبحت العدو الأول في سردية الجماعة.
لكن هل نسي هؤلاء من الذي سلّح مليشيات دارفور؟ ومن الذي غضّ الطرف عن تمدد التنظيمات الإرهابية على حدود السودان الغربية؟ ومن الذي احتضن الكوادر الأمنية التي أشرفت على تصفية المعارضين داخل الخرطوم ذاتها؟ لا، لم ينسَ أحد، لكن النفاق السياسي أعمى الأبصار.
ما كشفه التقرير الأممي ليس انتصارًا للإمارات فحسب، بل إدانة صريحة لكل من شارك في حملة التشويه، ولكل من تواطأ بالصمت، ولكل من اعتقد أن الأكاذيب يمكن أن تصبح حقائق إذا تم تكرارها كثيرًا. لقد سقط القناع، وانكشفت خيوط اللعبة.
يبقى الرهان على الوعي العربي. هل يُدرك الرأي العام أن الحرب الإعلامية لا تقل دموية عن الحرب على الأرض؟ هل يُدرك أن الدفاع عن الحقيقة ليس اصطفافًا سياسيًا، بل ضرورة أخلاقية؟ وهل تُراجع بعض النخب الصحافية التي انساقت وراء الخطاب الإخواني دون تدقيق أو مسؤولية، موقفها الآن؟
ما نحتاجه اليوم ليس فقط تقريراً أممياً يُسقط مزاعم، بل نحتاج إلى صحافة شجاعة تُسقط الأقنعة. نحتاج إلى نقاش علني حول من يقود غرف الكذب، ومن يمول ماكينة التضليل، ومن يصرّ على اغتيال الوقائع باسم المقاومة أو الممانعة أو السيادة.
الحرب في السودان ليست فقط حرب جنرالات، بل حرب سرديات. والإخوان يعرفون تمامًا أن خنق الحقيقة مقدمة ضرورية للاستيلاء على العقول. ولهذا استخدموا كل ما يملكونه من أدوات لشيطنة الإمارات، لأن مجرد وجودها كمشروع عربي ناجح خارج وصاية "الولي الفقيه" أو "المرشد العام" يفضحهم.
وفي النهاية، فإن الدول لا تُقاس بما يقال عنها في الإعلام، بل بما يثبته التاريخ. والتاريخ سيكتب أن الإمارات بنت مستشفيات، بينما الجماعة بنت الأكاذيب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة