الإمارات تأبى أن ينصرم عام التسامح، دون أن تطرح على العالم بعدا جديدا يكتب لإقدامها الجريء على طرح قضايا جوهرية تغير معالم الإنسانية.
وكأن الإمارات العربية المتحدة تأبى أن ينصرم العام الجاري عام التسامح، دون أن تطرح على العالم بعداً جديداً يكتب لإقدامها الجريء على طرح القضايا الجوهرية، تلك الكفيلة بتغيير معالم وملامح الإنسانية، في أوقات أعوز ما تكون فيها لأصحاب النوايا الصالحة والطيبة.
في الفترة ما بين التاسع والحادي عشر من ديسمبر/كانون الأول الجاري، تعيش الإمارات أحداث الملتقى السادس لمنتدى تعزيز السلم الذي يعقد تحت رعاية سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية والتعاون الدولي، الذي يأتي هذا العام تحت شعار يشاغب العقل والفكر، وما أحوج البشرية في حاضرات أيامنا لمن يحرك المياه الراكدة في بحار التكلس والتحجر والجمود الأرثوذكسي الفكري الذي أصاب عالمنا المعاصر.
يأتي منتدى تعزيز السلم هذا العام ليطلق ميثاق حلف الفضول العالمي الجديد، ويتطلع أن يشكل ملتقاه السادس فضاء رحبا لتبادل الأفكار بين المشاركين إبرازا للقيم الكونية المشتركة، وتعزيزا للأخوة الإنسانية، وأن يشكل المشاركون لوحة جميلة متعددة الأطياف، وأن يكونوا رسل سلام وتعايش إلى بلدانهم.
العنوان هو "دور الأديان في تعزيز التسامح.. من الإمكان إلى الإلزام"، والشاهد أنه إذا كان أمر التسامح محبوباً ومرغوباً سواء عند أصحاب الأديان الإبراهيمية التوحيدية، أو لدى أتباع الشرائع الوضعية، وإذا كانت إمكانية التسامح شأناً مطلوباً في الحل والترحال، إلا أن الجديد والمثير هو نقله من دائرة الممكن إلى دائرة الإلزام، وفي هذا حديث مختلف.
تبقى إمكانية التسامح شأناً متاحاً ومباحاً للجميع، لكن فكرة الإمكانية تعني أيضاً أنه لشخص أن يقبل بها أو يرفضها، ولهذا فإن فكرة الإلزام هي التي تستحق المساءلة والتفكر، وهل يمكن أن يكون التسامح ملزماً بحال من الأحوال؟
ربما لا يمكن تقديم جواب شافٍ وافٍ من غير النظر إلى أحوال العالم المعاصر؛ حيث تتقلص مساحات التسامح، وعوضاً عن شيوعها وذيوعها يجد المرء فائضاً من الكراهية يتصاعد حول العالم منذراً ومحذراً من الأسوأ الذي لم يأتِ بعد، والمتمثل في الصراعات الأهلية تارة والقومية تارة أخرى.
قبل بضعة أيام ذهبت الجمهورية الفرنسية إلى اعتبار أفعال بعينها مجرمة بقوة القانون، وذلك إذا تماست مع التراث الخاص بالديانة اليهودية، أي اعتبار الأمر نوعاً من أنواع العداء التقليدي للسامية الذي شهدته أوروبا في قرون سابقة كثيرة. ليست لدينا إشكالية ما مع هذا التوجه، الذي يحتاج إلى أن يكتمل لسلسلة من القوانين التي تجرم الإسلاموفوبيا، وبالقدر نفسه تحرم الاعتداء الأدبي والأخلاقي على المسيحيين والمسيحية، في بلاد توصف مجازاً بأنها مسيحية.
الفكرة العميقة هنا هي أن الدول والمجتمعات المتقدمة وعند نقطة متقدمة من رقيها الفكري والإنساني، تجعل من زوايا معينة للتسامح أمراً إلزامياً بقوة القانون، وإلا تحولت المجتمعات الحديثة إلى غابات من التناحر والتشارع.
قبل نحو أسبوعين وفي كلمة لها أمام البرلمان الألماني كانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تؤكد أنه يتوجب التفريق بين مسألة حرية الرأي وخطابات الكراهية، ما يعني إتاحة مساحات أوسع وأرحب للتسامح ولقبول الآخر من خلال تبيان حدود التسامح الواجب احترامها بقوة القانون ومن خلال تشريعات واضحة ونافذة.
في هذا السياق يمكن القطع بأن الإمارات العربية المتحدة كانت قد استبقت كثيراً من الحواضن الحضرية الغربية، وذلك حين أصدرت قوانينها الخاصة بتجريم ازدراء الأديان عام 2015، ما يعني أنها فكرت ونظرت ببعد نظر ما أتاح لها أن تكون رسالة بأكثر منها دولة في نطاقها الإقليمي والدولي.
ولعله من المقطوع به أن التسامح لكي ينتقل من مستوى الإمكان إلى مقام الإلزام، فإن الأمر لا بد له وأن يمر بمساقات فكرية وأدبية عديدة تلعب فيها الدول والحكومات دوراً تقدمياً في رفع القدرة التنافسية على الاستقرار والانفتاح على الآخر.
يمكن فهم التسامح الإلزامي في سياق ما يعرف بـ"الاختصاص الاتصالي"، وذلك حتى يمكن احتمال الآخر وتطوير الحاجة إلى فهمه والتعاطي معه، ومعرفة ثقافته معرفة حياتية وثيقة وليس من باب المعرفة النظرية فحسب.
التسامح الملزم لا بد له من إطار ينجح فيه الحوار الضدي كما يقال أو حوار الأضداد كما قال أبوالعلاء المعري، وما ينجح في الحوار الضدي لهو مهم أيضاً للحوار البنّاء، فالآخر الذي يعرف المرء عنه شيئاً يصبح أقل غرابة، والحوار يغدو أكثر سهولة، ومساحة التسامح تضحى أوسع وأعرض بمكان وزمان.
يأتي منتدى تعزيز السلم هذا العام ليطلق ميثاق حلف الفضول العالمي الجديد، ويتطلع أن يشكل ملتقاه السادس فضاء رحباً لتبادل الأفكار بين المشاركين إبرازاً للقيم الكونية المشتركة، وتعزيزاً للأخوة الإنسانية، وأن يشكل المشاركون لوحة جميلة متعددة الأطياف، وأن يكونوا رسل سلام وتعايش إلى بلدانهم.
أفضل ما قدمه منتدى تعزيز السلم خلال الأعوام الستة المنصرمة، هو أنه دعا لإسقاط حواجز الخوف من الآخر، وقد خيل لنا أن العولمة ستسقط الحواجز بين البشر، غير أنه تبين لنا لاحقاً أنها عززتها وخلقت فضاءات من الخوف، والخوف قاتل وهو أسوأ من يقدم النصيحة.
حين تفتح الإمارات أبوابها أمام المشاركين في منتدى تعزيز السلم من كل الأمم والشعوب، القبائل والأجناس، المذاهب والأديان، فإنها تذيب الفوراق بين شعوب الأرض، ما يدعو أفكار الإقصاء والعزل للتراجع، وأن يحل التعاون الخلاق محلها.
على عتبات العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، يبقى التساؤل هل سنشهد عالماً أكثر تسامحاً أم صحوة مميتة للأفكار والطروحات اليمينية ذات النزعات العدائية؟
الجواب يتوقف على رغبة البشر أنفسهم، وهل لديهم إرادة حقيقية لتغيير الأوضاع وتبديل الطباع، أم السير في طريق الانتحار الثقافي الذي يسبق تقليدياً الحروب العالمية.
يذهب الشيخ عبدالله بن بيه، رئيس منتدى تعزيز السلم، إلى أن الملتقى هذا العام ينطلق من رؤية مركزية للسلم وأولويته، فالمنتدى يؤسس على ما تم مراكمته في الملتقيات السابقة من تأصيلات علمية وعملية تندرج ضمن استراتيجية رافعة للسلم ومؤسسة للتسامح، باعتباره قيمة مركزية لجميع المبادرات.
الفارق الفاصل والمؤثر في ملتقى هذا العام هو أنه يهدف لإحداث تحول في المنظور الفكري المتداول، الذي يعد التسامح مجرد إمكان متاح في الدين من بين إمكانات متعددة، إذ حان الوقت لاعتباره إلزاماً دينياً وواجباً إيمانياً وأخلاقياً، فلا يكتفي بملاءمة بين الدين والتسامح بوصفها غير متناقضين، بل يرتقي لإدراك الملازمة بينهما، بحيث يصبح التسامح واجباً أخلاقياً وجزءاً من الدين.
من جديد تسعى الإمارات لخلق حوار حضاري، حوار تسامحي وتصالحي، من أجل إنسانية أكثر سخاء وعالم أكثر رخاء.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة