الإمارات والهند.. شراكة تعززها المصالح المشتركة والبيئة الإقليمية
العلاقات الإماراتية- الهندية تستند إلى مجموعة من المصالح المتبادلة، التي عززت استدامتها، ووفرت أساسا لتطويرها
رغم استناد العلاقات الإماراتية- الهندية تاريخيا إلى قائمة من المصالح المشتركة والمتنوعة، فإنها مع ذلك شهدت تحولات مهمة خلال السنوات الأخيرة.
وعبرت عن هذا التحول مجموعة من المؤشرات المهمة، انعكست بدورها على حجم الاهتمام الذي يوليه كل طرف للآخر. من بين هذه المؤشرات تبادل الزيارات على المستويات العليا خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بدءا من زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي للإمارات في أغسطس/آب 2015، تبعتها زيارة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، للهند في فبراير/شباط 2016، ثم في يناير/كانون الثاني 2017.
- رئيس وزراء الهند يبحث بالإمارات الجمعة تعزيز التعاون الاستراتيجي
- الإمارات والهند.. أخوة ترسي مبادئ إنسانية للسياسة الخارجية
وقد شهدت الزيارة الأخيرة الاتفاق على نقل العلاقات بين البلدين إلى مستوى "الشراكة الاستراتيجية الشاملة"، بالإضافة إلى توقيع عدد من مذكرات التفاهم للتعاون في عدد من المجالات، شملت الفضاء السيبراني والدفاع والنقل البري والبحري والمشروعات الصغيرة والمتوسطة والزراعة والقوى العاملة والإعلام والطاقة. تبع ذلك زيارة ثانية لرئيس الوزراء الهندي للإمارات في فبراير/شباط 2018، وهي الزيارة التي شهدت توقيع عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم في مجالات الموانئ البحرية والقوى العاملة والسكك الحديدية والبورصة.
وقد نجحت العلاقات الإماراتية- الهندية في تجاوز التجارة التقليدية في مجال النفط، لتشمل مجالات أخرى أكثر تنوعا، على نحو ما عكسه تعدد بروتوكولات واتفاقات التعاون الموقعة التي باتت تغطي مجالات متنوعة.
ووفق بعض التقديرات، بلغ حجم الاستثمارات الإماراتية في الهند في ديسمبر/كانون الأول 2017 نحو 8 مليارات دولار أمريكي (نحو 5.3 مليار دولار في شكل استثمارات مباشرة، و2.7 مليار دولار في الأوراق المالية)، لتعد الإمارات بذلك ضمن أكبر عشرة مستثمرين في الهند. وتتركز هذه الاستثمارات في قطاعات الخدمات والطاقة والبناء والتشييد والفنادق والسياحة.
على الجانب الآخر، تشير البيانات المتاحة إلى أن إجمالي الاستثمارات الهندية المباشرة في الإمارات بلغ في نهاية عام 2015 نحو 6.5 مليار دولار أمريكي، لتمثل الهند بذلك ثالث أكبر مصدر للاستثمار الأجنبي المباشر في الإمارات بعد المملكة المتحدة والولايات المتحدة. ونجحت العديد من الشركات الهندية الكبيرة مثل L&T، ESSAR، Dodsal، Punj Lloyd، Engineers India Ltd، TCIL وغيرها في الحصول على عدد كبير من العقود في دولة الإمارات. كما تأتي الاستثمارات الهندية في قطاع العقارات في دبي في مقدمة الاستثمارات الأجنبية في هذا القطاع.
مصالح متبادلة
تستند العلاقات الإماراتية- الهندية إلى مجموعة من المصالح المتبادلة، التي عززت استدامة هذه العلاقات من ناحية، ووفرت أساسا لتطويرها من ناحية أخرى.
يأتي في مقدمة هذه المصالح ضمان الاستقرار في إقليمي الخليج العربي وجنوب آسيا. ذلك أن ضمان الاستقرار في إقليم جنوب آسيا يمثل شرطا رئيسيا لاستدامة النمو الاقتصادي الهندي، ومن ثم ضمان استمرار الطلب الهندي على مصادر الطاقة، واستمرار تدفقات الاستثمار الإماراتي إلى الهند. هذه المصلحة المهمة تفسر الموقف المتوازن لدولة الإمارات من الصراع التاريخي بين الهند وباكستان، ودعوتها المستمرة لطرفي الصراع إلى ضرورة التزام التسوية السلمية للصراع ومواجهة التنظيمات الإرهابية. على الجانب الآخر، فإن استقرار منطقة الخليج العربي يمثل شرطا رئيسيا ليس فقط لاستمرار تدفقات النفط إلى الاقتصاد الهندي، ومن ثم الحفاظ على معدلات النمو الاقتصادي المستهدفة، لكنه شرط مهم أيضا لاستمرار تدفقات الاستثمارات الهندية إلى المنطقة بشكل عام، وإلى دولة الإمارات بشكل خاص.
وترتبط بالمصلحة السابقة قضية العمالة الهندية في منطقة الخليج بشكل عام، وفي الإمارات بشكل خاص. ووفقا للتقديرات الهندية، فإن الجالية الهندية في الإمارات تعد الجالية الأجنبية الأكبر في الإمارات، حيث تبلغ نحو 3.3 مليون مواطن، بنسبة 30% من إجمالي السكان، وتبلغ نسبة العاملين منهم 90%، مقابل 10% فقط من المعالين (الموقع الإلكتروني لسفارة الهند في الإمارات، نقلا عن منظمة الهجرة الدولية)، ما يعني أن النسبة الأكبر من الجالية هي عمالة منتجة.
وقد لعبت هذه الجالية دورا مهما في تعميق العلاقات بين البلدين من أكثر من زاوية. فمن ناحية، مثلت هذه الجالية مصدرا مهما للتحويلات الخارجية إلى الهند، والتي مثلت بدورها مصدرا مهما لدعم الاقتصاد الهندي وتوفير العملات الصعبة. وتحتل العمالة الهندية في الإمارات الترتيب الأول بين مصادر هذه التحويلات، بقيمة بلغت في سنة 2017 نحو 19.8 مليار دولار بنسبة 28.7% من إجمالي قيمة التحويلات الخارجية إلى الهند. وقد ساهم الوضع المتقدم لتحويلات العمالة الهندية في الإمارات إلى احتلال الهند الترتيب الأول عالميا للدول المستقبلة لتحويلات العمالة، بقيمة إجمالية بلغت 79.5 مليار دولار في سنة 2018 (قبل كل من الصين والفلبين والمكسيك ومصر ونيجيريا وباكستان وأوكرانيا وفيتنام وبنجلاديش)، وبنسبة 2.8% من الناتج المحلي الإجمالي الهندي.
كما مثلت هذه العمالة، من ناحية أخرى، مصدرا لتوفير احتياجات سوق العمل في الإمارات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن العمالة الهندية أبدت قدرة كبيرة على التأقلم مع احتياجات سوق العمل الإماراتي. ففي سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، عندما كان الطلب الأكبر على العمالة محدودة المهارة بلغت نسبة هذه الفئة من العمالة الهندية في الإمارات نحو 85-90%، مقابل 10-15% للمهنيين. لكن بحلول التسعينيات، ومع تزايد الطلب على المهنيين نتيجة تطور قطاع الخدمات حدث تغير مماثل في تركيبة العمالة الهندية في الإمارات، حيث ارتفعت نسبة المهنيين ورجال الأعمال وأصحاب الياقات البيضاء إلى 35% (20% ينتمون إلى ذوي الياقات البيضاء غير المهنيين، مثل الموظفين الكتابيين، والعاملين في المتاجر، والباعة والمحاسبين.. إلخ، 15% من المهنيين ورجال الأعمال).
كما مثلت هذه الجالية، من ناحية ثالثة، عاملا رئيسيا في تعميق التواصل البشري والحضاري بين الثقافتين الهندية والإماراتية العربية، وهو ما عبر عنه تأسيس معابد للسيخ، وإنشاء أول معبد هندوسي في أبوظبي. وبشكل عام لمثل هذا التفاعل خبرة إيجابية مهمة بالنظر إلى غياب ارتباط الجالية الهندية في الإمارات بأنماط صراعية، سواء في علاقتها مع المواطنين الإماراتيين أو الجاليات الأخرى الآسيوية أو العربية. وقد نتج عن وجود هذه الجالية كثافة الاتصالات عبر خطوط النقل الجوي، التي مثلت أحد مجالات التعاون الهندي- الإماراتي، من ناحية، ومصدرا مهما للدخل في هذا القطاع الحيوي في الإمارات.
تحولات البيئة الإقليمية
بالإضافة إلى المصالح المشتركة السابقة، هناك مجموعة من التحولات التي يتوقع أن تساهم في توسيع وتعميق العلاقات بين البلدين، وتأكيد طابعها الاستراتيجي. نشير فيما يلي إلى أهمها:
1- تصاعد الوزن النسبي للدائرة الآسيوية في أولويات السياسة الخارجية الإماراتية: ويعود ذلك إلى عوامل عديدة، يتعلق بعضها بتصاعد الوزن النسبي للقوى الآسيوية داخل النظام العالمي، خاصة الصين والهند، على المستويين الاقتصادي والسياسي. ويتعلق بعضها الآخر بتزايد الوزن النسبي للطلب الآسيوي على النفط. كما تحولت السوق الآسيوية إلى وجهة مهمة للاستثمارات الإماراتية.
2- خبرة الأزمة الإيرانية- الأمريكية: لا شك أن الأزمة الإيرانية- الأمريكية الجارية التي انطلقت مع إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مايو/أيار 2018 الانسحاب الأحادي الجانب من الاتفاق النووي مع إيران ستكون لها تأثيراتها المهمة بعيدة المدى على السياسة الهندية تجاه إيران، وعلى العلاقات الهندية- الإيرانية. فبعيدا عن التأثيرات قصيرة المدى لهذه الأزمة، والطريقة التي ستتم بها تسويتها، لكن هذه الأزمة وما ارتبط بها من نجاح أمريكي في فرض عقوبات فاعلة على الاقتصاد الإيراني والصادرات النفطية الإيرانية بشكل أدى إلى تراجع حاد في حجم هذه الصادرات، وهروب معظم الاستثمارات الأجنبية من إيران، فضلا عن التوترات الأمنية الخطيرة في مضيق هرمز بسبب تعرض عدد من ناقلات النفط لهجمات مباشرة وتعرض بعضها للاحتجاز، إلى حد اضطر الولايات المتحدة إلى البحث في آلية دولية لتأمين حرية الملاحة عبر المضيق، كل ذلك سيدفع الاقتصادات الآسيوية بشكل عام، وتلك التي اعتمدت على إيران كمصدر للواردات النفطية بشكل خاص -وعلى رأسها الهند- إلى إعادة النظر ومراجعة جدوى الاعتماد على إيران كمصدر للطاقة، في اتجاه مزيد من الاعتماد على المصادر الأكثر استقرارا، والدول المصدرة ذات العلاقات الإيجابية مع النظام العالمي، وعلى رأسها دولة الإمارات.
أضف إلى ذلك ما كشفت عنه خبرة الأزمة من محدودية المراهنة على العلاقات الاستراتيجية لبعض الدول الآسيوية مع الولايات المتحدة (ومنها الهند) لتمديد الاستثناءات التي مُنحت لهذه الدول من قرار حظر شراء النفط الإيراني لفترة محددة (مُنح هذا الاستثناء لمدة ستة أشهر لكل من الهند والصين واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، بالإضافة إلى إيطاليا واليونان وتركيا، حيث تم وقفه في الثاني من مايو/أيار 2019 دون تجديد)، وهو ما أدى إلى تراجع ضخم في حجم الواردات النفطية الهندية من إيران.
ولن تقتصر هذه المراجعة على الواردات النفطية الهندية من إيران، لكنها من المتوقع أن تشمل بعض المشروعات الضخمة بين البلدين، وعلى رأسها مشروع "ممر الشمال- الجنوب" International North- South Transport Corridor) INSTC) الذي يهدف إلى الربط بين ميناء مومباي الهندي (غرب الهند) وغرب أوروبا عبر عدد من المسارات البحرية والبرية المختلفة. ورغم تعدد المسارات المقترحة للممر فإن المسار البحري من ميناء مومباي إلى ميناء بندر عباس الإيراني على مضيق هرمز، ثم المسار البري داخل إيران عبر شبكة السكك الحديدية يمثل مكونا رئيسيا في هذا المشروع بمساراته المختلفة.
فكرة إنشاء ممر تجاري يربط بين أقاليم جنوب وغرب ووسط آسيا، وغرب أوروبا تعود إلى قرون ماضية، لكنها لم تأخذ منحى إجرائيا إلا في سبتمبر/أيلول سنة 2000 مع توقيع اتفاق بين الهند وروسيا وإيران لإنشاء هذا الممر، انضم إليه لاحقا عدد من دول آسيا الوسطى والقوقاز والخليج العربي والشرق الأوسط "كازخستان، بيلاروس، طاجكستان، أرمينيا، أوكرانيا، قيرغيزستان، أذربيجان، عمان، سوريا، تركيا، بالإضافة إلى بلغاريا كعضو مراقب".
ورغم الأهمية التي أولتها كل من الهند وإيران لهذا المشروع فإن فرص تنفيذه تأثرت بشدة بفعل أزمة البرنامج النووي الإيراني، وما ارتبط به من موجات العقوبات الاقتصادية الدولية على إيران. وقد أدى رفع هذه العقوبات عقب توقيع الاتفاق النووي في عام 2015 إلى تنشيط المشروع مرة أخرى، حيث سعت إيران، بالتنسيق مع شركائها الرئيسيين في المشروع (الهند وروسيا وأذربيجان)، إلى إحياء المشروع من جديد، وهو ما تم عبر قمة "بوتين- روحاني- إلهام علييف"، في التاسع من أغسطس/آب 2016، في العاصمة الأذرية باكو، لكن عودة الأزمة الإيرانية- الأمريكية مجددا، واستئناف تطبيق العقوبات الأمريكية على إيران، ساهمت بالتأكيد في تجميد المشروع من جديد وتراجع فرص تنفيذه.
ورغم استثناء الولايات المتحدة الاستثمارات الهندية في تطوير ميناء تشابهار الإيراني من العقوبات المفروضة على إيران (لحسابات تتعلق بالصراع الأمريكي مع الصين ونفوذها المتزايد في باكستان، فضلا عن التأثيرات الإيجابية المتوقعة لهذا المشروع على أفغانستان)، فإنه من المتوقع تأثر الاستثمارات الهندية في قطاعات السيارات والحديد والصلب والتعدين والبنية التحتية الإيرانية بهذه العقوبات.
خلاصة القول هنا إن أزمة البرنامج النووي الإيراني والخبرة الصراعية الإيرانية مع الولايات المتحدة ومحيطها الإقليمي قد تدفع دولا عدة راهنت على بناء علاقات وشراكات استراتيجية مع إيران -وعلى رأسها الهند- إلى إعادة النظر في حجم هذه المراهنة ودقتها.
3- تصاعد الأهمية النسبية للملف الأفغاني: رغم أن أفغانستان ليست دولة جوار مباشر لأي من الهند أو الإمارات، مع ذلك فقد أولى كل منهما اهتماما ملحوظا بهذا الملف، وهو ما انعكس في دعمهما عملية الحوار الجارية مع حركة طالبان- أفغانستان. ويرجع هذا الاهتمام المشترك إلى عوامل ومصالح عدة، يتعلق أولها بأهمية تحقيق الاستقرار في أفغانستان ووضع الدولة الأفغانية على المسار الصحيح كشرط رئيسي لمواجهة التحدي المشترك المتمثل في الإرهاب، خاصة في ظل وجود توقعات بتوسع حجم وجود تنظيم داعش هناك بعد تأسيس ما يسمى "ولاية خراسان"، وهزيمة التنظيم الإرهابي في العراق والشام.
تصاعد الأهمية النسبية لملف الحوار والمصالحة في أفغانستان يعطي فرصة مهمة لزيادة حجم ومستوى التعاون الإماراتي- الهندي في هذا المجال، كما يفتح المجال لمزيد من التعاون بين البلدين في أفغانستان في حالة نجاح عملية المصالحة ووصول الأطراف إلى اتفاق سلام.
وأخيرا، يمكن القول إن العلاقات الإماراتية- الهندية تمثل نموذجا للشراكات الدولية متعددة الأبعاد، التي تقوم على المصالح المتبادلة ومبدأ الفوز المشترك win- win game، بعيدا عن المنافسات والصراعات "الصفرية"، بجانب تحييد الأبعاد والمتغيرات الدينية بل وتحويلها إلى فرصة ومدخل للتفاعل الثقافي والحضاري.
* د. محمد فايز فرحات
خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، متخصص في الدراسات الآسيوية
aXA6IDE4LjIyNy40OC4xMzEg جزيرة ام اند امز