من أبرز أبجديات السياسة الخارجية النشطة والفاعلة للدول المتقدمة أن تعمل على توسيع هامش المناورة وامتلاك البدائل والخيارات،
من أبرز أبجديات السياسة الخارجية النشطة والفاعلة للدول المتقدمة أن تعمل على توسيع هامش المناورة وامتلاك البدائل والخيارات، التي تضمن الفاعلية والتأثير اللازمين لعلاقات الدول، وبالتالي ضمان مصالحها الاستراتيجية مع بقية دول العالم.
إن توسيع التحالفات والخيارات هي أولوية بديهية للدول في حالات معينة، ولكنها تبقى الأولوية القصوى للدول الساعية إلى التنافسية العالمية في مختلف مجالات التنمية، لأن الأمر لا يتعلق بالاقتصاد فقط بل يرتبط أيضاً بتبادل المعارف والخبرات والتجارب وتوطين التكنولوجيا في عالم يتجه كلياً نحو اعتماد المعرفة ثروة وطنية للدول بدلاً من الموارد الطبيعية أو الصناعية وغيرهما من مصادر الثروة التي اعتاد عليها العالم خلال القرون والعقود الماضية.
إن التوجه نحو الشرق ليس استراتيجية إماراتية بديلة للعلاقات مع شركاء الاستراتيجية للدولة في الغرب، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، بل هي استراتيجية تؤطر لتعزيز روافد التنمية في الإمارات بكل ما تحتاجه من أسباب التطور من الشرق والغرب على حد سواء
في الحالة الإماراتية تحديداً، فإن السياسة الخارجية الإماراتية قد دشنت مرحلة تنويع الخيارات والبدائل الاستراتيجية منذ سنوات طويلة مضت، وامتلكت بالفعل علاقات قوية ومتوازنة ومتنامية مع القوى الاقتصادية والاستراتيجية الفاعلة عالمياً في القرن الحادي والعشرين، وفي مقدمة هذه الدول والقوى تأتي جمهورية الصين الشعبية وكوريا الجنوبية واليابان وغيرها، بحكم ما لآسيا من دور صاعد في هذا القرن، حيث تتجه بوصلة المعرفة والثروة والقوة الشاملة بمرتكزاتها الجديدة وفي مقدمتها المعرفة والتطور التقني، نحو الشرق وتحديداً دول شرق آسيا.
وتأتي زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة إلى كوريا الجنوبية كخطوة جديدة داعمة للشراكة الاستراتيجية المتنامية بين البلدين الصديقين، الذين رسخا دعائم هذه الشراكة خلال زيارات متبادلة لقادة ومسؤولي البلدين خلال السنوات القلائل الماضية، وقد عبر سموه عن تطور مسيرة العلاقات بتغريدة مهمة على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، قال فيها: "وصلت إلى كوريا الصديقة في زيارة متجددة لبلد تجمعنا به علاقات استراتيجية قوية، نتطلع إلى فتح آفاق جديدة من التعاون والشراكات البناءة لما فيه خير بلدينا وشعبينا الصديقين"، فالمرتكز إذاً في هذه الزيارة أنها "متجددة" أي تأتي سعياً لتحقيق أهداف جديدة في إطار مسار مرسوم ومتفق عليه بين البلدين الصديقين والشريكين الاستراتيجيين، اللذين وصف سموه علاقتهما بأنها "استراتيجية وقوية". الهدف في المجمل كما حدد سموه يتمثل في "فتح آفاق جديدة من التعاون والشراكات البناءة"، وهو ما يفسر تأكيد سموه بأن العلاقات بين البلدين تتسم بطبيعة مؤسسية، أي أنها تمضي وفق خارطة طريق مدروسة بما يحقق تطلعات قيادتي البلدين ومصالح شعبيهما.
على الجانب الآخر، عبر الجانب الكوري الجنوبي عن رؤيته لتطور العلاقات الاستراتيجية الخاصة مع دولة الإمارات من خلال بيان أصدره مكتب الرئاسة قال فيه إن "المحادثات بين الشيخ محمد بن زايد والرئيس مون ستركز على سبل ملموسة وعملية لتطوير العلاقات بين البلدين، لتكون علاقة أكثر فائدة متبادلة وموجهة للمستقبل"، والمغزى هنا أن التركيز سيكون حول البحث في "سبل ملموسة وعملية" من أجل تطوير العلاقات، وصولاً إلى تحقق هدف الفائدة المتبادلة وأيضاً استشراف المستقبل والاستعداد له بفتح مسارات جديدة تتمشى مع طموحات وتطلعات الجانبين ورؤيتهما لمستقبل الشراكة الاستراتيجية.
إن البحث عن مسارات مستقبلية تغذي هذه الشراكة وتمثل روافد حيوية لها، يأتي من خلال مجالات مثل تكنولوجيا الجيل الخامس والصناعة الدفاعية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ما يسهم في الارتقاء بمستوى الشراكة ويرسخ قواعدها بشكل أقوى.
الإمارات تعد الآن أكبر شريك تجاري لكوريا الجنوبية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي أيضاً ثاني أكبر مزود نفطي لكوريا الجنوبية، وهذا يعكس أهميتها الاستراتيجية الكبيرة لأحد أكثر اقتصادات العالم تطوراً ونمواً، ولا يقتصر الأمر على ذلك بل إن هناك استثمارات كورية في الإمارات تقدر بنحو 9,1 مليار دولار، وهذا أيضاً يمثل تصويتا بالثقة في قدرة الاقتصاد الإماراتي على جذب الاستثمارات من إحدى أكثر دول العالم جذباً للاستثمارات من مختلف دول العالم، حيث تنافس كوريا القوى الاقتصادية الكبرى في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، حيث بلغت تعهدات الاستثمار الأجنبي المباشر فيها عام 2017 نحو 23 مليار دولار في وقت يشهد فيه الاقتصاد الكوري تطوراً هائلاً في القطاع الصناعي على خلفية الثورة الصناعية الرابعة، وتحديث الهيكل الصناعي لهذا البلد الكبير، وتبادل الاستثمارات، وهذه التبادلات باتت جزءاً لا يتجزأ من مشهد التفاعل التنموي العالمي عبر تبادل المنافع لاقتصادات الشركاء الاستراتيجيين.
الشراكة الاستراتيجية الخاصة هي الصيغة أو الإطار الذي حدده البلدان للعلاقات الثنائية، وهي صيغة ترتقي إلى مستوى أعلى وأكثر عمقاً من الشراكة الاستراتيجية، وتوصل إليها الجانبان خلال زيارة الرئيس الكوري الجنوبي للإمارات في مارس/آذار من العام الماضي، وتلك صيغة تنفرد بها الإمارات عن غيرها من دول المنطقة، بما يجسد خصوصية العلاقات الإماراتية الكورية الجنوبية، التي تشهد تطوراً متسارعاً توج بالتعاون في المجال النووي السلمي، حيث تقوم كوريا الجنوبية بإنشاء أربع محطات نووية ضمن مشروع "براكة" النووي السلمي في دولة الإمارات، الذي يعد أحد ركائز استراتيجية دولة الإمارات للتنمية المستدامة في القرن الحادي والعشرين، وقد أصبح هذا المشروع الاستراتيجي رمزاً للتعاون بين البلدين الصديقين.
ومن تابع جيداً تفاصيل الزيارة المهمة لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى كوريا يدرك جيداً نقاط التركيز المستقبلية في مسيرة تطوير الشراكة الاستراتيجية الخاصة والعلاقات الثنائية، فسموه يسعى لتأصيل شبكة المصالح المشتركة وترسيخها، من خلال الاستفادة من الخبرات الكورية في مجال الإلكترونيات، حيث زار سموه مركز أبحاث وتطوير أشباه الموصلات في شركة "سامسونج للإلكترونيات" وبحث مع رئيسها سبل تعزيز التعاون بينها وبين الشركات الإماراتية في عدة مجالات مثل اتصالات الجيل الخامس وأشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي، كما شاهد عرضاً حياً لأحدث تقنيات الجيل الخامس من "سامسونج".
هناك أيضاً تنوع في أجندة الزيارة الرسمية تمثل في توقيع شركة بترول أبوظبي الوطنية "أدنوك" ثلاث اتفاقيات إطارية مع شركات كورية للطاقة، لبحث فرص التعاون المشترك في مجالات الاستكشاف والتطوير والإنتاج، والاستثمارات المحتملة في مجال التكرير والبتروكيماويات، ونقل شحنات النفط والغاز الطبيعي المسال وتحميلها على السفن.
إن التوجه نحو الشرق هو ليس استراتيجية إماراتية بديلة للعلاقات مع شركاء الاستراتيجية للدولة في الغرب، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، بل هي استراتيجية تؤطر لتعزيز روافد التنمية في الإمارات بكل ما تحتاجه من أسباب التطور من الشرق والغرب على حد سواء، لاسيما أن الإمارات شيدت نموذجا عالميا للانفتاح الذي يفتح أبواب التعاون كافة مع الدول الصديقة والشقيقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة