ثمة حملة إعلامية شديدة، وهي جزءٌ من حربٍ معلوماتية تتعرض لها دولة الإمارات منذ اندلاع حرب غزة الخامسة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وقد كان أمامي خياران في كتابة مقال عن سياسة الإمارات تجاه الحرب، أولهما اتخاذ موقف المنافح في مواجهة حملة التضليل وحرب المعلومات على دولتنا ورموزها، وما يتطلبه ذلك من الانخراط في الجدل بالتي هي أسوأ والتراشق بالتعميمات والانتقادات مع مَن يشنون هذه الحملة، وهم من مشارب شتى، وأكثرهم ينتمون لتنظيماتٍ وحركات إسلامية محظورة تقف دولة الإمارات لتطرفهم وعنفهم بالمرصاد.
وثانيهما تحرير الموقف الإماراتي من حرب غزة، ليعلم القانع والساخط والقاصي والداني أبعاد هذا الموقف على حقيقته، وينظروا ما فيه قبل أن يتسرعوا بالحُكم عليه، وقد استقر رأيي على الخيار الثاني.
منذ اندلاع الحرب، جعلت الإمارات أولويتها إنهاء العنف وحماية أرواح المدنيين، ومن ثم تدخلت، عن طريق الاتصالات الدبلوماسية الثنائية ومتعددة الأطراف ومجلس الأمن الدولي، للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، في صورة هدنة دائمة أو مؤقتة، حتى يتسنى إيصال المساعدات الإنسانية الملحة إلى المدنيين في القطاع المنكوب ودون عوائق وبشكل مكثف ومستدام.
ولعل ذلك يقودني إلى الدور الإنساني لدولة الإمارات في الحرب، الذي يُعد من أكبر الأدوار وأبرزها، فقد بلغ إجمالي المساعدات الإماراتية المقدمة للشعب الفلسطيني ضمن «عملية الفارس الشهم 3» حتى تاريخه نحو 22500 طن، أرسلت عبر 220 طائرة وثلاث سفن و43 من طيور الخير.
وبالنسبة للإغاثة الصحية، تم تأسيس مستشفى ميداني داخل غزة وآخر عائم في «العريش» المصرية، استقبلا أكثر من 19300 حالة، فيما تم إرسال أكثر من 600 حالة للعلاج داخل الدولة.
كما أنشأت الإمارات عدداً من محطات تحلية المياه والمخابز لسُقيا أهل غزة ومطعمهم.
وفي الوقت الذي سعت فيه دولة الإمارات إلى التوصل لوقف إطلاق النار، وانتقدت مراراً وتكراراً ممارسات وخطط الجيش الإسرائيلي خلال الحرب في قطاع غزة، لا سيما خطته لاقتحام رفح، وأعلنت رفضها سياسة العقاب الجماعي الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني ومحاولات تهجير أبنائه من أراضيهم وهدم ممتلكاتهم ومنازلهم، وطالبت بوضع حدٍ لعنف المستوطنين وجميع الأنشطة الاستيطانية في الضفة الغربية؛ أقول: في الوقت نفسه سعت أبوظبي إلى تجنب اتساع رقعة الصراع في المنطقة.
وفي هذا الخصوص، نأت الإمارات بنفسها عن الانخراط في عمليات تحالف حارس الازدهار التي تقودها الولايات المتحدة ضد جماعة الحوثيين في اليمن، على الرغم من تأثير هذه العمليات على تجارة الدولة الخارجية ومصالحها الوطنية. كما نأت الإمارات بنفسها عن التورط في حرب الظل أو التصعيد العسكري المباشر بين إسرائيل وإيران، والتزمت الحياد الإيجابي في هذا الشأن، ولم تسمح باستخدام مجالها الجوي بواسطة الطرفين أو بواسطة الولايات المتحدة.
وبعد أن تبين للإمارات تعنت الجانب الإسرائيلي، وإصرار حكومة نتنياهو على مواصلة حربها على الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، لم تتردد في اتخاذ إجراءات دبلوماسية عقابية ضدها، في أعقاب مقتل سبعة من فريق منظمة المطبخ العالمي المركزي بضربة صاروخية إسرائيلية في غزة في أول أبريل/نيسان المنصرم، وأبلغت الحكومة الإماراتية تل أبيب رسمياً باحتجاجها على اغتيال متطوعي الإغاثة وغيرها من ممارسات الجيش الإسرائيلي.
وكان استقبال زعيم المعارضة الإسرائيلية، يائير لبيد، في 2 مايو/أيار الجاري، في أبوظبي، ولقاؤه وزير الخارجية الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، يحمل رسالة لتل أبيب مؤداها استياء الإمارات من طريقة إدارة نتنياهو للحرب في غزة، وأن توجهات حكومته اليمينية المتطرفة تُفسد أجواء الاستقرار الإقليمي وآفاق التوصل إلى تسوية سلمية عادلة للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
وقد زاد التحرك الإماراتي من حالة العزلة التي يعانيها رئيس الوزراء الإسرائيلي، ولا سيما بعد موافقة حركة حماس على مسودة اتفاق لوقف إطلاق النار في مفاوضات القاهرة، وإصرار نتنياهو على الاستمرار في عملية رفح التي حذرت الإمارات من شنها، ولعل المثل السائر عن أنّ شخصاً «ألقى حجراً في بئر فعجز ألف عاقل عن إخراجه» ينطبق أكثر ما ينطبق على نتنياهو في إصراره على اقتحام رفح.
ثم إن هذا الاقتحام، كما يجزم الخبراء، لن يُمكِّنه من تحقيق أي من أهدافه: تحرير الأسرى، والقضاء على حماس وغيرها من فصائل المقاومة الفلسطينية، وتأمين المناطق الحدودية الإسرائيلية المحاذية لغزة ولبنان تمهيداً لعودة المهجرين إليها.
والخلاصة، أنّ الموقف الإماراتي -رغم الحملات الإعلامية الممنهجة عليه من قبل المرجفين- كان وما زال وسيبقى مسانداً للشعب الفلسطيني، ويدفع إلى إيجاد أفق سياسي جاد لإعادة المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين لتحقيق السلام الشامل القائم على أساس «حل الدولتين»، ما يسهم في إرساء دعائم الاستقرار، وتحقيق الأمن المستدام في أكثر مناطق العالم اضطراباً وإنهاء العنف المتصاعد الذي تشهده.
** نقلا عن صحيفة "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة