سجل المراقبون خلال الأسابيع الأخيرة حراكا دبلوماسيا غير مسبوق في منطقة الشرق الأوسط، لم يدُر بخلد العديد من متابعي شؤون المنطقة أن يحدث -على الأقل في الوقت الراهن.
ولربما كان توقعه في نظر بعضهم تنجيما أكثر منه تحليلاً سياسياً، رغم المتواضع عليه في فن السياسة من أنها لا تعرف المستحيل وليس فيها صديق دائم أو عدو دائم.
كانت دولة الإمارات العربية المتحدة موجة هذا الحراك والفاعل الأبرز فيه من خلال جولات الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، مستشار الأمن القومي الإماراتي، واللقاءات التي جمعته بالساسة في قطر وتركيا وإيران، وهي لقاءات كانت تتويجا لعمل مُضن دون شك، ولكنه أنجز بسلاسة وهدوء وحنكة.
لقد دفعت جولة الشيخ طحنون البعض إلى التساؤل: ما الذي جعل الإمارات تسعى لنزع الفتيل مع هذه الدول؟ وذهب آخرون أبعد من ذلك إلى التساؤل: هل ستتخلى الإمارات عن رؤيتها التي ربما كانت السبب الأساسي في تعقيد علاقاتها الخارجية مع هذه الدول وهي وقوفها ضد حركات الإسلام السياسي بشقيها السني والشيعي واقتناعها بأن هذه الحركات لا تخدم السلم الدولي وهي المغذي الأساسي للتنظيمات الإرهابية في العالم؟
كشفت التحركات الإماراتية الأخيرة بوضوح حرص الدولة على التعامل بندية مع الأطراف الإقليمية والدولية، وبدا ذلك جليا في لقاء صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، مع الرئيس التركي، وفي زيارة الشيخ طحنون لإيران، وفي الرسائل للجانب الأمريكي أن وضعهم أمام خيار إما نحن أو الصين لإتمام صفقة F35 غير مقبول.
لا يعني هذا أن الإمارات أصبحت دولة عظمى، بل إنها اختطت نهجا جديدا، فلم تعد الإمارات الدولة النفطية التي ترتهن علاقاتها بالمصالح التجارية والاقتصادية مع الدول.. الإمارات ذات الخمسين عاما استطاعت أن تصنع لنفسها مكانة بين الدول في زمن قياسي، فخلال خمسين عاما قطعت الإمارات أشواطا كبيرة في الاستثمار في التعليم وتأهيل كوادرها البشرية، وفرضت نفسها مركزا ماليا وتجاريا عالميا، واستثمرت في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وأضحت مركزا مهما للصناعات الدوائية والعسكرية ومنبرا ثقافيا عالميا.. كل ذلك يتم في ظل ترسيخ ثقافة التسامح والسلام والتعايش.
عملت الإمارات لسنوات على مشروع لتعزيز السلم والسلام في العالم ونبذ الكراهية ومحاربة الغلو والتطرف والإرهاب.. كانت هذه المعركة تدور في الدوائر المغلقة والعامة دون ضجيج، وتمثل ذلك في خطوات جبارة لتحسين صورة الدين الإسلامي التي لوّثتها التنظيمات الإرهابية بممارسة القتل باسم الدين، وشيدت بيتا للعائلة الإبراهيمية يلجم من يقتاتون على استغلال الأديان كورقة لتفريق الشعوب، لتفتح بذلك بابا للتوافق على ما يجمع هذه العائلة من قيم سامية لتتسامح وتسمو على الخلاف بالتمعن في القيم المشتركة بين الأديان، واتخذت قرارا شجاعا لفتح باب السلام بتوقيعها الاتفاق الإبراهيمي لتحمل راية السلام وتضع الجميع أمام مسؤولياتهم.
وفي مضمار آخر بذلت الإمارات جهودا حثيثة للحفاظ على البيئة وخفض إنتاج الكربون، وكانت سباقة في هذا السياق من خلال تأسيس شركة "مصدر" وتشغيل محطات للطاقة النووية السلمية، وغير ذلك من المشاريع الأخرى.
وخلال جائحة كورونا، التي هزت المنظومة الصحية في بلدان كبرى، أظهرت الإمارات قدرة فائقة في التعاطي مع الظرف الاستثنائي، فبدت الجائحة كأنها مجرد بالون اختبار لما كانت تعمل عليه دولة الإمارات خلال السنوات الماضية، لا شك أن من لم يكونوا على اطلاع بالتخطيط فاجأتهم الإمارات في تعاملها مع الجائحة، خصوصا استطاعتها مد يد العون لأغلب دول العالم بالمساعدات الغذائية والطبية واللقاحات.
وبدَهي أن ذلك النجاح لم يأت من فراغ، بل إن الدولة الخمسينية كانت تضع في الحسبان أن العالم قد يتعرض لكوارث طبيعية أو صحية تستدعي العمل لسنوات لمواجهتها والتخفيف من أضرارها، ورغم أهمية النجاح الإماراتي في اختبار جائحة كورونا، فإن الأهم أن الدولة استفادت من هذه التجربة للمستقبل.
بعد أسبوعين تدخل الدولة الخمسينية مجلس الأمن متسلحة بـ"التفاؤل الواقعي"، الذي جبل عليه المؤسس الشيخ زايد بن سلطان -طيّب الله ثراه- كما ذكر وزير الخارجية الإماراتي، سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان في مقاله الأخير في جريدة الاتحاد الإماراتية.
في ظل هذا التفاؤل الواقعي جلست الإمارات مع من تختلف معهم، وسعت لتقارب وجهات النظر، لكنها جلست على أرضية صُلبة تعتمد نبذ العنف والكراهية والتطرف ومحاربة الإرهاب وعدم قبول العبث، الذي تسعى إليه جماعات الإسلام السياسي، وذلك لتعزيز وتطوير العلاقات الإيجابية من خلال الحوار.
كما أكدت الإمارات للعالم أنها حليف يُعتد به وقت الأزمات ويسعى لخدمة مصالح المنطقة ويعول عليه في نشر ثقافة البناء والازدهار، وكما قال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان: "في وقت الشدة شفنا ناس ورجال قول وفعل".
نقلا عن عكاظ السعودية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة