لم تكن وثيقة موجهة ضد الإرهاب والتطرف والتعصب البغيض فقط، بل جاءت بمنزلة صرخة عالمية ضد كل مسببات التطرف والإرهاب
سيتوقف التاريخ ملياً عند الزيارة الاستثنائية التي قام بها قداسة البابا فرنسيس بالأمس إلى دولة الإمارات، ليس فقط لأنها تمثل نقطة فارقة بين ما قبلها وما بعدها على صعيد العلاقة بين العالمين الإسلامي والمسيحي، أو لأنها الزيارة الأولى من نوعها التي يقوم بها الحبر الأعظم إلى شبه الجزيرة العربية، رغم ما لذلك من دلالات وأبعاد وأهمية كبرى، لا سيما ما تخللها من فعاليات تاريخية أبرزها القداس الذي ترأسه قداسته بحضور نحو 130 ألف مشارك، حيث كانت الصورة والمشاهد المؤثرة داخل استاد مدينة زايد الرياضية بأبوظبي وخارجه خير تعبير عن استثنائية الحدث، وما ينطوي عليه من رمزية هائلة ترسخ مكانة دولة الإمارات كعاصمة عالمية للتسامح والتعايش والتآخي الإنساني، ومنصة لاحتضان الحوار العالمي بين الأديان والثقافات والحضارات.
إنه حدث عالمي كبير وفخر للإمارات وشعبها أن تكون حاضنة للأخوة والتضامن الإنساني في لحظة تاريخية يصنع فيها العالم مستقبله ويصيغ رؤية جديدة للتعايش بين الأجيال الحاضرة والقادمة
كثيرة هي المشاهد والأحداث التي تستوقف المحللين والخبراء في هذه الزيارة، ومن أبرزها برأيي تلك الوثيقة التاريخية التي وقعها بحضور صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، قداسة البابا وفضيلة شيخ الأزهر، وهي الوثيقة الصادرة عن المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية، الذي نظمه مجلس حكماء المسلمين في أبوظبي، تحت عنوان "وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك"، وتنطوي على فهم عميق لأزمات العالم وإشكاليته الثقافية والدينية، وانطلقت من تكريس لفكرة الأخوة الإنسانية في بناء رؤية عالمية مشتركة للمستقبل، سواء على صعيد العلاقات بين البشر والأفراد من كل الديانات والمعتقدات، أو بين الدول والشعوب، هادفة إلى بناء ثقافة عالمية جديدة قائمة على الاحترام المتبادل، باعتباره الأساس في بناء وترسيخ قيم التسامح والعيش المشترك.
من أبرز الثوابت والمبادئ في هذا النص التاريخي أنه يكرس فكرة المساواة في الحقوق والواجبات، ويحظر القتل بأي داع أو دافع، تأكيداً للمبادئ التي نصت عليها التشريعات السماوية جميعها، وينص على فكرة إنسانية نبيلة هي مساعدة "الفقراء والبؤساء والمحرومين والمهمشين"، مذكراً البشرية جمعاء بأن الإحسان إليهم ومد يد العون للتخفيف عنهم "فرض على كل إنسان، لا سيما كل مقتدر وميسور" في إعلاء لقيم الأديان وجوهرها الأصيل.
تحدثت الوثيقة باسم أطراف المعاناة في عالمنا أيضاً، وخصت بالذكر منهم "الأيتام والأرامل، والمهجرين والنازحين من ديارهم وأوطانهم، وكل ضحايا الحروب والاضطهاد والظلم، والمستضعفين والخائفين، والأسرى والمعذبين في الأرض، دون إقصاء أو تمييز"، وكذلك "الشعوب التي فقدت الأمن والسلام والتعايش وحل بها الدمار والخراب والتناحر"، لتكتسب من خلال ذلك وجهاً إنسانياً وحضارياً فريداً على صعيد ترسيخ فكرة الأخوة الإنسانية، واستنفار طاقات محبي الخير وأخيار العالم من أجل الانتباه إلى مظاهر المعاناة والإسهام الجاد في التصدي لها ومعالجتها.
لم تكن وثيقة موجهة ضد الإرهاب والتطرف والتعصب البغيض فقط، بل جاءت بمنزلة صرخة عالمية ضد كل مسببات التطرف والإرهاب، وكل العوامل المؤدية إليه، أو التي تسهم فيه بشكل مباشر أو غير مباشر، عبر استحضار فكرة المسؤولية الملقاة على عاتق علماء الدين ومسؤوليتهم الدينية والأدبية والأخلاقية، ودورهم في العمل جنباً إلى جنب مع صناع السياسة والاقتصاد العالمي والمفكرين والفلاسفة والفنانين والإعلاميين والمبدعين، من أجل نشر التسامح والتعايش والسلام.
إنها صوت جديد وثقافة مستحدثة على الصعيد العالمي، صوت يعيد اكتشاف آليات العمل الجماعي العالمي من أجل إيجاد طوق نجاة للبشرية جمعاء، من تهديدات تخيم على كل مفردات الحياة في كثير من مناطق العالم ودوله، وتشخيص واقعي للأزمات ومظاهر المعاناة، والتأكيد على أنها ناجمة بالأساس عن تغييب الضمير الإنساني وإقصاء الأخلاق الدينية.
تنص الوثيقة في أحد أهم نقاطها على ترسيخ دور الأسرة، الذي غاب وغابت معه الكثير من مظاهر الأمن المجتمعي، واعتبرت أن "مهاجمة المؤسسة الأسرية والتقليل منها والتشكيك في أهمية دورها من أخطر أمراض عصرنا"، داعية إلى العودة للطريق القويم عبر "إيقاظ الحس الديني والحاجة لبعثه مجددا في نفوس الأجيال الجديدة، عن طريق التربية الصحيحة والتنشئة السليمة، والتحلي بالأخلاق والتمسك بالتعاليم الدينية القويمة لمواجهة النزعات الفردية والأنانية والصدامية، والتطرف والتعصب الأعمى بكل أشكاله وصوره.
بحضور رمزيّ الدين الإسلامي والمسيحي، وبتوقيعهما أمام حشد عالمي من مجلس حكماء المسلمين وقيادات الكنيسة الكاثوليكية في المنطقة والعالم، والمفكرين والعلماء، جاءت الوثيقة لتنص رسمياً على دحض أي افتراء يربط بين الأديان والإرهاب، وتحسم معركة خاضها الكثيرون شرقاً وغرباً لتشويه الدين الإسلامي تحديداً، ونال هذا الدين العظيم فيها ما ناله من الظلم، وأطلقت صرخة مدوية لـ"الكف عن استخدام اسم الله لتبرير أعمال القتل والتشريد والإرهاب والبطش". ببساطة لأن "الله لم يخلق الناس ليقتلوا أو ليتقاتلوا أو يعذبوا أو يضيّق عليهم في حياتهم ومعاشهم، وأنه عز وجل في غنى عمن يدافع عنه أو يرهب الآخرين باسمه.
كما تضمنت الوثيقة نصوصاً لصون حقوق الطفل والمرأة والفئات المستضعفة، وبدت كوثيقة عالمية تجمع سمات الوثائق القانونية العالمية المتداولة، وتضفي عليها من الاحترام والتقدير المرتبط بالرموز الدينية العالمية التي وقعت عليها في أبوظبي.
إنه حدث عالمي كبير وفخر للإمارات وشعبها أن تكون حاضنة للأخوة والتضامن الإنساني في لحظة تاريخية، يصنع فيها العالم مستقبله، ويصيغ رؤية جديدة للتعايش بين الأجيال الحاضرة والقادمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة