ستُدرَّس زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات -حفظه الله- لواشنطن في كتب تاريخ الدولة، فضلًا عن كونها زيارة تاريخية؛ ذلك أن الزيارات الرئاسية التاريخية نادرة. أما الزيارات التأسيسية، فهي أكثر ندرة.
فعلى امتداد 53 عامًا منذ قيام دولة الاتحاد في 2 ديسمبر 1971 لم يزُر أي رئيس إماراتي العاصمة الأمريكية واشنطن على الرغم من دعوات رسمية متكررة لزيارتها، وكان لدى الأب المؤسس الشيخ زايد -طيب الله ثراه- أسباب وجيهة لذلك، منها استياؤه -رحمه الله- من موقف الولايات المتحدة الأمريكية غير المنصف تجاه احتلال إيران جزر الإمارات الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى؛ إذ انحازت إلى إيران من دون وجه حق في قضية تمس سيادة دولة الإمارات على جُزرها؛ وذلك ضمن سياسات تهدف إلى إعطاء الشاه دور شرطي الخليج العربي نيابةً عن واشنطن، التي أخذت تستعد لتأدية مهام حماية أمن المنطقة ونفطها بعد الانسحاب البريطاني؛ وكذلك عبَّر الشيخ زايد في أكثر من مناسبة عن استيائه من المواقف الأمريكية تجاه القضايا العربية المصيرية؛ وإضافةً إلى ذلك لم تقدر أمريكا دولة الإمارات في حينها حق قدرها.
وفي السياق نفسه لم يتمكن الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، الرئيس الثاني لدولة الإمارات -رحمه الله- من زيارة أمريكا لأسباب صحية بحتة، برغم أنه أجرى زيارة رسمية لها بصفته ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة؛ واكتفى بإنابة أخيه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد في زيارة واشنطن خمس مرات، بمعدل زيارة واحدة كل عامين، تعرَّف فيها إلى واشنطن، والتقى معظم رؤساء أمريكا حينها.
ولكنَّ نظرة الإمارات إلى أمريكا تغيرت جذريًّا بعد سقوط نظام الشاه، وقيام الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979؛ وضاعف غزو الاتحاد السوفياتي أفغانستان، واقترابه من مياه الخليج العربي اهتمام دولة الإمارات بالدور الأمريكي الحيوي لضمان أمن المنطقة واستقرارها، وحماية تدفق النفط إلى الأسواق العالمية؛ وعندئذٍ ازداد اقتناع الإمارات وبقية دول الخليج العربية المصدِّرة للنفط بضرورة بناء علاقات استراتيجية وثيقة مع واشنطن.
وممَّا عزز هذا التوجه الإماراتي والخليجي غزو العراق الكويت في 2 أغسطس 1990؛ إذ مثَّل الغزو محطة جديدة في علاقة دول المنطقة بالولايات المتحدة، التي كان لها دور حاسم ورئيسي في تحرير الكويت، وتعززت الثقة بها بصفتها قوةً عظمى وحيدة في العالم، قادرة على الدفاع عن دول الخليج العربية، وحماية أمنها من أي اعتداء خارجي.
وتزامنت هذه القناعات الوطنية مع شَغْل صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان مسؤوليات عسكرية وأمنية وسياسية قيادية في دولة الإمارات؛ فقد تولى سموه ملف العلاقة مع واشنطن، وحرص على مشاركة القوات الإماراتية مع نظيرتها الأمريكية في عملية تحرير الكويت، وأعطى سموه العلاقة مع أمريكا أولوية خاصة، وأدرك باكرًا أهمية الشراكة الاستراتيجية معها، ثم أسهم في وضع أسسها الأولى، وأشرف على تطويرها، وهندسة مساراتها، وتجاوز مطبَّاتها بحنكة وحكمة وواقعية، منطلقًا من مصلحة الإمارات الوطنية.
ولكنْ بمرور الوقت تغيرت أولويات الإمارات، كما تغيرت أولويات أمريكا؛ فقد شهِدت الإمارات تحولًا كبيرًا في الأعوام الثلاثين الماضية، وبرزت قوةً إقليمية صاعدة تستعد لمرحلة ما بعد النفط؛ في حين شهدت أمريكا تحولًا أكبر، ولم تعُد بحاجة إلى نفط الخليج العربي وغازه، بل أصبحت تصدِّر الغاز إلى بعض دول المنطقة؛ وكذلك تغيَّر العالم بوتيرة أسرع مقارنةً بأي وقت مضى، وصار يستعد لمرحلة ما بعد أمريكا؛ ولهذا أجرى متخذ القرار الإماراتي مراجعة متأنية وشاملة لطبيعة العلاقة مع واشنطن، وتموضعها في العالم الجديد، وكشفت هذه المراجعة عن أن العلاقة الإماراتية-الأمريكية متجذرة ومتجددة، وأنها عميقة ومتعددة كما هي مصيرية ومفيدة، ومملوءة بالفرص والتحديات، ولكنها أصبحت على مفترق طرق، وأمامها مسارات عدة، من بينها السير بواقعية نحو مستقبل مختلف؛ ولذلك عقدت الإمارات وأمريكا سلسلة من الحوارات الاستراتيجية الشفافة في العامين الماضيين، كانت خلاصتها قناعة مشتركة بأن العلاقات الإماراتية-الأمريكية قامت لتبقى؛ ولكن عليها أن تتطور، وتفتح صفحة جديدة، وتضع أسسًا مختلفة لتواكِب المستجدات والتحولات الإقليمية كما العالمية، وتتكيف مع قرار إماراتي سيادي بتنويع الشركاء والشراكات شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا.
وما يميز الإمارات هو أنها دولة واقعية تراجِع أولوياتها بين الحين والآخر؛ فهي ليست من الدول العالقة في الماضي، بل تركز أولًا على حاضرها، وتفكر دائمًا في مستقبلها؛ ولذلك أجرى رئيسها زيارة لواشنطن منطقها ومنطلقها التأسيس لعهد جديد في العلاقة مع أمريكا، يتجاوز النفط والأمن والدفاع برغم أهمية ذلك كله.
لقد وضع صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد علاقة الإمارات بالولايات المتحدة في قمة اهتماماته على مدى الأعوام الثلاثين الماضية، ولديه رؤية لمساراتها في الأعوام الخمسين المقبلة؛ ووفق هذه الرؤية لا تكون الإمارات شريكًا نفطيًّا واستراتيجيًّا لها فحسب، بل هي شريك صناعي وتقني وعلمي أيضًا.
إن أبرز معالم المرحلة المقبلة هو التركيز على البعد الجيواقتصادي المستقبلي من دون تجاهل البعد الجيوسياسي المستقبلي الذي تجسد في إعلان رئاسي أمريكي يرفع الإمارات إلى مستوى "شريك دفاعي رئيسي" (Major Defence Partner) ذي امتيازات غير مسبوقة، من بينها تطوير قطاع صناعة عسكرية حيوية ضمن اقتصاد إماراتي يمتاز بتنوع مصادر دخله في مرحلة ما بعد النفط. وتُعد الإمارات ثاني دولة في العالم تحصل على هذا المستوى من الشراكة الدفاعية الرئيسية بعد الهند. وإلى جانب رفع مستوى الشراكة الدفاعية سيحظى الاستثمار والتجارة والتقانة المتقدمة والذكاء الاصطناعي والبحث العلمي من الآن فصاعدًا بالأولوية، بدلًا من بيع النفط وشراء السلاح.
وتتمثَّل أبرز نتائج زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد واشنطن في التقدير الأمريكي لصداقة الإمارات، ومصداقية رئيسها؛ وفي قلب هذا التقدير اعتراف أمريكي بأن الإمارات أصبحت قوة إقليمية صاعدة لا يمكن تجاوزها؛ ويؤكد ذلك كله أن هذه الزيارة ستدخل التاريخ بصفتها زيارة تأسيسية بقدر ما هي زيارة تاريخيَّة؛ لكونها أسست لعهد جديد ومستقبل مختلف في علاقة أمريكا بالإمارات، وبقية دول الخليج العربية.
نقلا عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة