انطلاق المسبار جرى في الوقت الذي تردت فيه الأحوال العربية نتيجة حروب وأزمات كثيرة سببتها دول الجوار الجغرافي للعالم العربي
وقت نشر هذا المقال سوف تكون خمسة أيام مضت على صعود مسبار "الأمل" الإماراتي إلى خارج الكرة الأرضية في طريقه إلى الكوكب الأحمر: المريخ.
تفاصيل ذلك انتشرت في كل وسائل الإعلام العربية والإماراتية بالطبع، ولم تخل وسيلة إعلام عالمية دونما متابعة شبه يومية لانطلاق المركبة الفضائية خاصة بعد أن تأجلت أكثر من مرة بسبب سوء الأحوال الجوية.
ولكن ما جعل الحدث بالغ الأهمية أنه كان أولًا نتاج جهد دولة عربية، في وقت لا تنتشر فيه كثير من الأخبار الطيبة عن العرب والدول العربية؛ وفي الحقيقة فإن انطلاق "الأمل" لم يكن مدهشا ومثيرا في حد ذاته، وإنما لأكثر من ذلك لأنه يعبر عن قفزة علمية وتكنولوجية ضخمة، قليلا ما شهدت اعترافا دوليا كما حدث الآن.
وثانيًا أن الحدث جاء في زمن الكورونا حيث بدا وكأنه خروجا على سياق الأخبار غير الطيبة التي أحاطت بالفيروس التاجي وكوارثه العالمية وما أحط به على العالم من إحباط.
وثالثًا أن انطلاق المسبار جرى في الوقت الذي تردت فيه الأحوال العربية نتيجة حروب وأزمات كثيرة سببتها دول الجوار الجغرافي للعالم العربي التي انتهزت ما سمي بالربيع العربي لكي تهيمن إيران على أربع عواصم عربية (بغداد العراقية، ودمشق السورية، وبيروت اللبنانية، وصنعاء اليمنية)، ويدخل العسكر التركي إلى ثلاثة بلدان عربية (العراق وسوريا وليبيا)، وتفتح إسرائيل باب ضم جديد لأراضي فلسطينية، وتسعى إثيوبيا إلى اعتقال مياه النيل التي ذهبت إلى السودان ومصر لآلاف السنين.
ورابعًا أن كثيرا من الأخبار السيئة تخرج من العالم العربي، فهناك دول فاشلة تعاني من حروب أهلية مزمنة، أو فشل اقتصادي مروع، أو عجز سياسي تسعى فيه جماعة الإخوان المسلمين للسيطرة والهيمنة، أو إرهاب مصحوب بقوافل من المهاجرين واللاجئين الذين يعبرون البر والبحر لكي يهربوا من كوارث محلية كثيرة.
القصة الإماراتية كان فيها ما هو أكثر من إطلاق المسبار، الأمل، لأنه إذا ما وضع في سياقه فإنه سوف يكون مفهوما ويعطي للعالم وللعرب ما يقودهم إلى الطريق السليم القائم على العلم والمعرفة
وسط ذلك كله أن ينجح بلد عربي هو الإمارات العربية المتحدة في إرسال مركبة فضائية إلى كوكب المريخ فإن ذلك يثير العجب والدهشة أنه رغم كل شيء فإنه داخل العرب يوجد من يسعون إلى المشاركة في مسيرة التقدم العالمي.
القصة الإماراتية كان فيها ما هو أكثر من إطلاق المسبار، الأمل، لأنه إذا ما وضع في سياقه فإنه سوف يكون مفهوما ويعطي للعالم وللعرب ما يقودهم إلى الطريق السليم القائم أولا على العلم والمعرفة، وثانيا على جهد دؤوب لا يتوقف ولا يكل.
وعندما بدا في يوم من الأيام أن شركة موانئ دبي في سبيلها إلى دخول السوق الأمريكية منافسة في ذلك شركات أمريكية؛ فإن دولة الإمارات بدت مؤهلة لهذا التخصص الذي لا يوجد إلا لدى الدول الراسخة في التقدم لكي يؤسسه بين العرب.
صحيح أن الأمر واجه عقبات كثيرة في الولايات المتحدة، وبعضها كان عنصريا، ولكن الشركة ما لبث أن حصلت على امتياز الكثير من الموانئ العالمية، ونجحت شركات طيرانها – الإمارات والاتحاد - في غزو سوق الطيران داخل الولايات المتحدة.
وعندما، في الأسبوع الماضي، نجحت الإمارات في إرسال "مسبار" إلى كوكب المريخ مشاركة في ذلك الولايات المتحدة والصين في التطلع خارج مدار الكرة الأرضية؛ أصبحت الإمارات مؤهلة لكي تتخصص في مجال الخدمات والصناعات المتقدمة، بما طورته في مجالات الطاقة الشمسية، وإدارة شركات عالمية مركبة من جنسيات متعددة.
وفي مجال العلاقات الإقليمية، وبالإضافة إلى التأييد الإماراتي المعروف للحقوق الفلسطينية، فإن زاوية الاقتراب الإماراتية من إسرائيل كانت من خلال التعاون لمحاربة "كوفيد -١٩" برفع مناعة سكان الإقليم والعالم لمواجهة البلاء.
لم يكن هناك شعارات فارغة من الواقع، ولا كان فيها ادعاءات، وإنما اقتحام من زوايا إنسانية تظهر حقيقة العرب كمشاركين في الحضارة الإنسانية، وفي الحقيقة فإن الإمارات دعت كل طلاب العلم الفضائي بين العرب للمشاركة في المشاريع الفضائية الإماراتية من خلال الدراسة والعلم والاستعداد لما هو قادم من زمن سوف يكون فيه معايير تقدم وتفوق الأمم من خلال قدراتها العلمية ومشاركاتها في المصالح المشتركة للبشرية جمعاء.
هذا المشروع – الأمل - يؤهل الإمارات العربية المتحدة لكي تكون عضوا عربيا بارزا في "معاهدة الفضاء الخارجي" أو بالتفصيل "معاهدة في القواعد الحاكمة لأنشطة الدول في استكشاف الفضاء الخارجي، شاملة القمر والأجسام السماوية الأخرى".
هذه المعاهدة تلزم الدول الموقعة ألا تفرض ملكية ما يجرى اكتشافه في خارج كوكب الأرض، وأن تجعل الفضاء الخارجي خاليا من الأسلحة النووية، وأن تستخدم القمر والعوالم الأخرى للأغراض السلمية، وأن تقدم المساعدة والعودة لرواد الفضاء إلى بلادهم الأصلية في حالة الطوارئ، وأمور أخرى.
دخول الإمارات إلى عالم هذه المعاهدة يكسر ما بدا احتكارا لدول الشمال ليس فقط في الخروج إلى الفضاء الخارجي وإنما الاقتراب أيضا من كوكب المريخ. فكما هو معروف أن الفضاء كان احتكارا خالصا للمنافسة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي الذي ورثت روسيا حقوقه الفضائية الشرعية.
ولكن في عام ١٩٩٨ حاولت اليابان أن تشارك في السباق ولكنها فشلت، ومن بعدها وكالة الفضاء الأوروبية، ثم الصين والهند، ومؤخرا إسرائيل، وكانت الوجهة القمر.
الإمارات دخلت الآن إلى ذلك النادي النخبوي للدول المتقدمة علميا، وفي وقت لم يعد فيه الذهاب إلى الفضاء مجرد سباق على المكانة، ولتطوير صواريخ تكون جزءا من سباق التسلح.
فخلال العقود الأخيرة أصبح الفضاء أولا جزءا من الخدمات الأرضية بعدما أصبحت الأقمار الصناعية محطات للإذاعة والاتصالات ومراقبة أحوال المناخ وأحداث كثيرة تجري على كوكب الأرض.
وثانيا أن إنشاء محطة فضائية مأهولة في الفضاء الخارجي، والتي شاركت فيها ١٦ دولة، أصبح نطاقا هاما لإجراء الأبحاث العلمية الغير مقيدة بالجاذبية الأرضية.
وثالثا أن القطاع الخاص دخل مؤخرا إلى "غزو الفضاء" من خلال برنامج هو حصيلة تعاون شركة خاصة SpaceX يملكها الملياردير آلان ماسك الذي اشتهر عالميا عن طريق سيارة "تسلا" الكهربائية التي تسير دون سائق إذا ما أريد لها ذلك.
الرجل وشركته ومحاولته الجديدة عبرت عن جيل جديد من رجال الأعمال والمستثمرين يأتي بعد العباقرة من سابقيهم "بيل جيتس" و"ستيفن جوبز" أصحاب مايكروسوفت وآبل.
الآن فإن "ماسك" و"بيزوس" صاحب شركة "أمازون" يريدان الخروج من ضيق الأرض إلى الفضاء الفسيح؛ فيحاول "بيزوس" أن يقيم قاعدة بشرية فضائية على القمر في عام ٢٠٢٤؛ أما "ماسك" فيريدها على كوكب المريخ. المعضلة الكبرى في مواجهة هذه الطموحات هي أن بناء قاعدة على القمر أو المريخ معناها نقل أحمال كبيرة من كوكب الأرض إلى الفضاء الخارجي وإعادة بنائها على قمر أو كوكب.
الإمارات سوف تكون ممثلة العرب في هذه الإنجازات البشرية الكبرى، وبعد أن كانت من أوائل الدول العربية بعد السعودية التي أرسلت رائدا إلى الفضاء الخارجي، فإنها الآن تشارك في بناء المركبات وإطلاقها من خلال وكالة الفضاء الإماراتية التي أقامت شبكة علاقات واسعة للتعاون مع المؤسسات الدولية الهامة في هذا الشأن.
هذه العلاقات علم ومعرفة في حد ذاتها، واقتراب من العصر الذي يعيش فيه العرب جنبا إلى جنب مع الأمم الأخرى. خالص التهاني لدولة الإمارات على هذا الإنجاز التاريخي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة