استخبارات أمريكا وبريطانيا.. «مياه بيضاء» على «العيون الخمس»

يعتقد البعض أن الوقت قد حان لتقليص تبادل بريطانيا، المعلومات الاستخباراتية مع الولايات المتحدة، لكن الأمر أعقد من ذلك بكثير.
ومنذ عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للبيت الأبيض، شهدت العلاقة الخاصة بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة توترًا على عدد من الجبهات، لكن الكثيرين في مجتمع الأمن القومي اعتبروا أن المعقل الأخير لهذه العلاقة هو التعاون الاستخباراتي.
بيد أن هذا الملف شهد تصدعات كبيرة، مؤخرا.
والشهر الماضي، أمر ترامب بعدم مشاركة المعلومات الاستخباراتية الأمريكية مع أوكرانيا، سواء من قِبل وكالات التجسس التابعة لها أو من قِبل دول أخرى في تحالف "العيون الخمس" الأمني:
وبعدها، كشفت إضافة صحفي إلى مجموعة درشة عبر تطبيق "سيغنال" ناقشت خطط الهجوم في اليمن، ما وصف من البعض، بأنه "تساهل الإدارة الأمريكية الحالية في التعامل مع أسرار الدولة".
والروابط بين شبكات الاستخبارات البريطانية والأمريكية ممتدة بشكل عميق لدرجة أنه قد يستحيل فك تشابكها، أو محاكاة المساهمة الأمريكية، وذلك وفقًا لما ذكره مسؤولي استخبارات حاليين وسابقين لمجلة "بوليتيكو" الأمريكية.
ومع ذلك، يرى الخبراء أنه من الضروري لبريطانيا أن تبدأ التخطيط لما كان مستحيلاً في السابق، خاصة إذا استمرت أمريكا في الابتعاد عن أقدم تحالفاتها وأهدافها الدولية المشتركة.
وتعود مكانة بريطانيا في مجال الاستخبارات إلى عقود مضت، مع تأسيس تحالف "العيون الخمس" لتبادل المعلومات الاستخباراتية، الذي يضم المملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، عقب الحرب العالمية الثانية.
"تغيير الأسلوب"
وقال مسؤول استخباراتي بريطاني سابق، إنه على الرغم من نجاة تحالف "العيون الخمس" من تسريبات إدوارد سنودن، الموظف في وكالة الأمن القومي الأمريكية، عام 2013، لكن كشف عن "الكثير من قدرات التحالف وإمكاناته"، مما أجبره على تغيير طريقة جمع المعلومات وكيفية تعامل بعض شركات التكنولوجيا مع الحكومات.
وشهدت العقود القليلة الماضية تراجعًا نسبيًا في جمع الاستخبارات البشرية التي تغطي بشكل عام العملاء والأصول التي يديرها مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) ووكالة المخابرات المركزية (CIA) في الولايات المتحدة، وجهازي الاستخبارات الخارجية (MI5) و(MI6) في المملكة المتحدة، وذلك في مقابل ارتفاع هائل في الجمع الرقمي للمعلومات، والذي تغطيه أعمال مقر الاتصالات الحكومية البريطاني (GCHQ) ووكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA).
وقال المسؤول الاستخباراتي، إن المشاركة الآلية الشاملة لهذه الاستخبارات الرقمية أصبحت أكثر أهمية لأن الاستخبارات البشرية "لا تتوسع بنفس الطريقة"، مضيفا أن أجهزة الاستخبارات في الولايات المتحدة وبريطانيا، "متكاملة بعمق، ومن الصعب للغاية فك تشابكها".
ولا تزال بريطانيا تمتلك أصولًا مهمة مفيدة لأمريكا وعلى رأسها مراكز التنصت وهي منشآت عسكرية واستخباراتية، غالبًا ما تكون في الخارج، تُستخدم لمراقبة الاتصالات، وتُصنف على أنها سرية.
وبفضل هذه البيانات الحاسمة، من غير المرجح أن تنسحب الولايات المتحدة من تحالف "العيون الخمس" وفقًا لنيل ملفين، مدير الأمن الدولي في المعهد الملكي للخدمات المتحدة.
وفسر ملفين ذلك قائلا، إن "انسحاب أمريكا يعني أن تضطر إلى استبدال بعض الأصول باهظة الثمن التي تمتلكها المملكة المتحدة، بالإضافة إلى قواعد الإشارات والاستخبارات الأمريكية الموجودة في بريطانيا".
تحالف متكامل.. ولكن
وأشار مسؤول استخبارات بريطاني سابق إلى أن مجتمع استخبارات الإشارات متكامل بشكل جيد للغاية في "العيون الخمس"، موضحا: "يستخدم البعض معدات أمريكية يديرها بريطانيون، والبعض الآخر بالعكس؛ الأمر نفسه ينطبق على أستراليا وكندا".
لكن الأحداث الأخيرة أعادت تذكير حلفاء الولايات المتحدة بأن قدراتها الاستخباراتية لا تُضاهى، إذ قال المسؤول الاستخباراتي البريطاني إن المملكة المتحدة قادرة على المساعدة في تحليل الصور التي تجمعها الولايات المتحدة من الفضاء، إلا أنها لا تملك القدرة على جمعها بنفسها.
وفي إطار تحالف العيون الخمس موّلت الولايات المتحدة العديد من ابتكارات الأمن والدفاع البريطانية، مما وفّر الدعم لتطوير تكنولوجيا "ذات استخدام مزدوج" أي ذات تطبيقات مدنية وعسكرية لأمريكا وحلفائها.
ومع ذلك، فإن دمج الشركات الأمريكية في البنية التحتية الدفاعية والاستخباراتية والمدنية البريطانية أمرٌ جوهري.
وقال مسؤول الاستخبارات، إن بريطانيا اعتقدت لعقود أن دمج التكنولوجيا الأمريكية "تعاون ذكي للغاية"، لأن العلاقة بين البلدين "علاقة دائمة يُمكننا الاعتماد عليها، وأكثر فعالية من الاعتماد على الاتحاد الأوروبي"، قبل أن يضيف: "كنا مخطئين".
عرابو التكنولوجيا
وأثار الطابع السياسي المفرط لمجموعة مليارديرات التكنولوجيا الحاليين المرتبطين بالبيت الأبيض، قلقًا في بعض قطاعات مجتمع الاستخبارات في المملكة المتحدة، خاصة مع اهتمام إيلون ماسك بالتأثير على السياسة البريطانية والأوروبية.
وتنقسم الآراء حول ما يجب فعله، لكن الجميع يتفق على أن أكثر الخطوات إثارة للقلق تأتي من موقف أمريكا المتراجع تجاه روسيا.
إذ قال ميلفين: "لم نصل إلى أزمة بعد، ولكن هناك مستوى جديد من الحذر في العلاقة".
فيما قال مسؤول استخبارات كبير سابق آخر ببريطانيا: "عليك أن تأمل في الأفضل، ولكن استعد للأسوأ"، مضيفا أن علاقة العيون الخمس "متجذرة بعمق ومحكومة بشكل مختلف" لدرجة أنها ستكون "آخر ما يمكن أن ينهار في العلاقة عبر الأطلسي"، حيث يديرها "رؤساء استخبارات محترفون، وليس سياسيون".
بدوره، ذكر وزير بريطاني لـ"بوليتيكو": "أمريكا لا تملك كل الأوراق، وقد رأيتُ ذلك خلال فترة وجودي في الحكومة.. لقد تأثرنا بالشعور بقوة أمريكا، لدرجة أننا تخلينا عن استعراض عضلاتنا منذ زمن طويل"، مضيفا: "كان عليّ تذكير الناس بأنها شراكة، وليست علاقة تبعية".
كما هو الحال مع حلف شمال الأطلسي، فإن مكانة أمريكا الراسخة في مجتمع الاستخبارات ترجع إلى حد كبير إلى القوة المالية والتكنولوجية التي تُسهم بها.