في البداية، راهنت أطراف أزمة أوكرانيا على تحقيق أهدافها في فترة قصيرة، ومع تطور العمليات العسكرية وتوسعها تضاربت المصالح وتصادمت الأهداف.. وجاءت النتائج عكس ما تم التخطيط له.
فقد أيقنت القيادة الروسية أن الهدف من استفزاز حلف الناتو لها هو توريط روسيا في حرب استنزاف تحشد لها روسيا طاقاتها، فتحدث أزمة اقتصادية تُربك الدولة الروسية وتُفشل خططها الاستراتيجية، وقد تقود إلى ثورة شعبية، وقد أدركت القيادة الروسية ذلك مبكرًا، فآثرت التريث والتحرك بخطوات محسوبة دون التورط في حرب شاملة.
في المقابل، راهنت الدول الأوروبية على العقوبات الاقتصادية، التي تم فرضها على روسيا في خطوات متتالية ومتسارعة، كان الهدف منها إحداث شلل تام في النظام الاقتصادي الروسي، يُجبر القيادة السياسية على التراجع والقبول بالهزيمة في أوكرانيا، وهو ما لم يتحقق ليقظة صانع القرار في موسكو، ونجاحه في تحويل العقوبات الاقتصادية إلى سلاح تضرب به أوروبا مصالحها، وتُدخل مجتمعاتها في أزمة حياتية غير مسبوقة، وفي الوقت نفسه تربح روسيا من وراء هذه العقوبات ما لم يدخل في حسبان مَن فرضها.
ومع استمرار الحرب بوتيرة منخفضة وتواصل العقوبات الاقتصادية بوتيرة متصاعدة وشاملة وقاسية، وتحول العقوبات إلى تحقيق نتائج عكسية على الدول والمجتمعات الأوروبية، تظل أزمة أوكرانيا دون ظهور بارقة أمل في تحقيق حسم عسكري قريب أو حلول دبلوماسية في الأفق.. هنا تصادمت مصالح الدول الأوروبية مع المصالح الأمريكية، ودخل حلف الناتو في حالة تفكك غير معلنة في الموقف من استمرار الحرب.
الولايات المتحدة الأمريكية من مصلحتها استمرار الحرب واستنزاف روسيا إلى أقصى مدى، وتوريط الصين كذلك بصورة أكثر مع روسيا، والقيادة الأمريكية خصوصًا تحتاج إلى هذه الحرب حتى انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر القادم، والتي يتم فيها انتخاب جميع أعضاء مجلس النواب، وثلث أعضاء مجلس الشيوخ وثلث حكام الولايات، أما الحزب الديمقراطي، الذي يسيطر على "البيت الأبيض" والكونجرس بمجلسيه، فلم يحقق في العامين الماضيين ما يُقنع المواطن الأمريكي بإعادة انتخاب أعضائه للكونجرس والولايات، ولم يبق لديه إلا الحرب الأوكرانية كإنجاز وحيد على مستوى السياسة الخارجية، بعد الفشل في إنهاء الاتفاق النووي الإيراني، أو في تحقيق أي نجاح على المستوى الدولي، أو في الوضع الاقتصادي الداخلي.
لذلك فإن استمرار الحرب في أوكرانيا سيكون هو المِشجب الذي يتم تعليق الأزمة الاقتصادية الأمريكية الداخلية عليه، وهو المصدر الوحيد لإثبات قدرة القيادة الأمريكية الديمقراطية على اتخاذ مواقف دولية قوية وحاسمة تحافظ على الهيبة.
على الجانب الآخر، دخلت أوروبا في أزمة اقتصادية اجتماعية خانقة توشك أن تعصف بحكومات العديد من دولها، خصوصا مع اقتراب فصل الشتاء، فالعقوبات على روسيا كانت في حقيقتها عقابا قاسيا للشعوب الأوروبية، التي تعتمد على مصادر الطاقة الروسية بصورة كبيرة، فارتفعت أسعار المحروقات، بل وانعدم وجودها في بعض الدول لفترات طويلة، ومن المتوقع أن تتعاظم هذه الأزمة في فصل الشتاء، الذي صار على الأبواب، ولم تقف حدود هذه الأزمة عند الاحتياجات المنزلية من المحروقات، بل إن العديد من المصانع سوف تتوقف لعدم توفر الطاقة اللازمة، ما سوف يخلق أزمة بطالة شديدة، وللأسف الشديد كلما تحرك الاتحاد الأوروبي لتخفيف الأزمة تأتي قراراته بنتائج عكسية، حيث صارت الأزمة أشبه بلعبة شطرنج بين روسيا والاتحاد الأوروبي.
وهنا أصبح من مصلحة العديد من الدول الأوروبية، خصوصا ألمانيا، إنهاء الحرب الأوكرانية سريعا، فلم تعد هزيمة روسيا هدفًا، وهنا يجب أن يستذكر العالم كلمات الدبلوماسي الأمريكي المخضرم، هنري كيسنجر، الذي نصح حلف الناتو بعدم التفكير في إذلال روسيا، أو هزيمتها، لأن ذلك لن يحدث من جانب، وسيكون ثمنه قاسيا من جانب آخر.
لقد أدت لعبة الشطرنج الاقتصادي بين روسيا والاتحاد الأوروبي في الأزمة الأوكرانية إلى نتيجة لا بد معها أن تسارع أوروبا لإنهاء الأزمة سريعا، وبحلول تحفظ ماء الوجوه لجميع الأطراف، وإلا سوف تواجه أوروبا أزمة اقتصادية اجتماعية سيكون من نتائجها تغيير معظم الحكومات في أول انتخابات قادمة.
لكن للأسف إنهاء الحرب الآن ليس في مصلحة القيادة الأمريكية، ولن تستطيع أوروبا منفردة وضع نهاية لهذه الأزمة، والجهة الوحيدة التي من الممكن أن تلعب دورا في هذا الشأن هي الأمم المتحدة، ولكن كون أطراف الصراع جميعا تتحكم في مجلس الأمن، فلا أمل للإنسان الأوروبي في شتاء دافئ هذا العام.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة