الأمن القومي في جوهره مجموعة مبادئ تحددها عوامل، بعضها ثابت وبعضها متغير.
ولكنها مبادئ، أي لا يستطيع صانع القرار أن يخرج عن سياقها، حتى وإن كانت مصالحه، أو مصالح النخبة التي يعبر عنها، أو الحزب الذي ينتمي إليه، أو حتى مصالح الشعب في هذه اللحظة التاريخية تستلزم غير ذلك.
فالدول تخوض حروبًا للدفاع عن أمنها القومي، على الرغم من أنه لا مصلحة لأحد في الدخول في الحرب، خصوصًا إذا كانت دفاعية.
وفكرة "المبادئ" في مفهوم الأمن القومي لا تعني أنها عكس "المصالح"، ولكنها تتضمن منظومة خاصة من المصالح طويلة الأمد، أو المصالح الوجودية، التي يتعلق بها مصير الدولة والمجتمع، وليست مصالح بالمعنى السياسي أو الاقتصادي اللحظي، لذلك عندما نقول إن الأمن القومي مبادئ، فإن ذلك يتضمن المصالح العليا الدائمة المستقرة، ولكنه لا يتضمن المصالح السياسية، أو الاقتصادية الوقتية، ولكنه لا يتعارض بالضرورة معها، أو ينفيها، بل يحافظ عليها على المدى البعيد، حتى وإنْ ضحَّى ببعضها في المدى القريب أو المتوسط.
وقد حدد حامد ربيع غاية الأمن القومي في "تحقيق الحد الأدنى للحماية الذاتية"، وهذا الحد الأدنى من الحماية الذاتية تحدده ثلاثة عناصر، هي:
- الموقع الاستراتيجي والامتداد الإقليمي، وطبيعة العلاقات مع قوى الإقليم ومكوناته
- العنصر البشري وسلوكياته، سواء من الدولة ذاتها، أو من قيادات دول الإقليم وامتداداته الجغرافية
- الدول المحيطة وأوزانها النسبية
هذه المكونات الثلاثة تتفاعل مجتمعةً لتحديد الإدراك الذي يشكل مفهوم الأمن القومي، لذلك فجوهر هذا المفهوم يقوم على المبادئ الثابتة، التي تشكلها في الغالب عناصر خارج إطار سيطرة وتحكم النخبة السياسية، التي يتشكل عندها الإدراك الذي يحدد معايير الأمن القومي.
سيكتب التاريخ أن الأزمة الأوكرانية بكل ملابساتها وتداعياتها وأطرافها كانت لحظة تاريخية فارقة في تحديد مفهوم ومضمون وأبعاد الأمن القومي.. لقد أعادت الأزمة الأوكرانية تعريف هذا المفهوم المحوري والجوهري في وجود الأمم.. وبالتحديد أعادت هذه الأزمة ترتيب مضامين الأمن القومي على النحو الآتي:
أولا: وضعت الأزمة الأوكرانية قضية الغذاء على رأس المخاطر التي تهدد الأمن القومي للدول، فالقمح والذرة والزيت والمستلزمات الزراعية من أسمدة وغيرها صارت على الدرجة والأهمية نفسها، إنْ لم تزْد على الأسلحة بكل أنواعها.
فقد اكتشفت معظم دول العالم أن تأمين الغذاء على درجة أهمية تأمين الأسلحة الدفاعية بكل أنواعها.. فحيث إن روسيا وأوكرانيا تنتجان ما يقارب 30٪ من القمح في العالم، أصبح من الصعب تصدير هذه الكميات الهائلة من الدولتين في ظل ظروف الحرب، هنا تحول العالم من الأمم المتحدة إلى أصغر الدول في أفريقيا إلى الحديث عن تأمين خروج الصادرات الروسية والأوكرانية من القمح والذرة إلى العالم، وصار الحديث عن كيفية تأمين تصدير القمح الأوكراني يعلو بطبقات متعددة على الحديث عن كيفية إنهاء الحرب وتحقيق السلام.
هذه الحقيقة تضع تحديا خطيرا على الدول العربية والأفريقية تحديدا، وهي الأكثر اعتمادا في غذائها على ما تتم زراعته في دول أخرى، وهي الأقل إنتاجا في كل ما يتعلق بغذاء شعوبها، هذه الدول جميعها ينبغي أن تضع في قمة أولويات تحقيق أمنها القومي تأمين الغذاء لشعوبها، سواء بالاعتماد الذاتي أو بالتعاون الإقليمي.. ولعل العالم العربي يبدأ التخطيط والتنفيذ الفعلي لتحقيق التكامل الزراعي بما يحقق الاكتفاء الذاتي من الغذاء لشعوبه.
ثانيا: لقد كشفت الأزمة الأوكرانية أن المناعة الاقتصادية على الدرجة نفسها من أهمية القدرات العسكرية، فبناء اقتصاد قوي قادر على امتصاص الصدمات، ومواجهة العقوبات والحصار الاقتصادي هو أساس القوة العسكرية، ودونه لن يكون للقوة العسكرية وزن ولا تأثير، فلو لم يكن الاقتصاد الروسي قويًّا وقادرًا على امتصاص العقوبات الغربية القاسية والعنيفة، بل الاستفادة منها وتحويل كثير منها إلى عناصر قوة، ما كانت روسيا قادرة على الاستمرار في هذه الحرب لهذه المدة أمام الدعم الغربي غير المسبوق لأوكرانيا، وأمام هذا الكم من العقوبات القاسية والعنيفة.
وهذا بدوره يعيد تعريف مفهوم الأمن القومي، ويعطي للقوة الاقتصادية السبق على القوة العسكرية، فدون القوة الاقتصادية في عالم اليوم لن يكون للقوة العسكرية الدور المطلوب والإنجاز المأمول.
إن أزمة أوكرانيا ستكون نقطة تحول تاريخية غاية في الأهمية والخطورة في مستقبل العالم، وتحتاج إلى كثير من التأمل والتفكير بعيدًا عن المسلّمات، التي تم تلقينها لأجيال متعاقبة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة