ذكريات نكأت جراحها أزمة أوكرانيا.. كيف ولماذا سقط الاتحاد السوفياتي؟
بإنزال العلم الأحمر الذي يحمل المطرقة والمنجل من فوق قصر الكرملين، سقطت من المسرح العالمي، واحدة من القوتين العظميين اللتين هيمنتا على المشهد لما يقرب من 70 عامًا.
ورغم أن ذلك الحدث والذي غير وجه العالم مر عليه أكثر من 3 عقود، إلا أن تداعياته والدروس المستفادة منه ما زالت حاضرة حتى اليوم، في وجدان الكثير من السياسيين، الذين ما لبثوا أن استرجعوا تلك الذكريات، مع اندلاع الحرب الأوكرانية قبل 10 أشهر.
فماذا نعرف عن ذلك "الحدث الهام"؟
ببزوغ فجر يوم الخامس والعشرين من ديسمبر/كانون الأول 1991، أعلن ميخائيل غورباتشوف، أخر زعيم سوفيتي، استقالته رسميًا من منصب رئيس الاتحاد السوفياتي، لتمضي ساعات، ويعلن في اليوم التالي وتحديدًا في 26 ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، مجلس السوفيت الأعلى، رسميًا استقلال 15 دولة، وإنهاء وجود الاتحاد السوفياتي.
والاتحاد السوفياتي كان قوة عظمى مكونة من 15 دولة وهي: أرمينيا، أذربيجان، بيلاروسيا، إستونيا، جورجيا، كازاخستان، قيرغيزستان، لاتفيا، ليتوانيا ومولدوفا وروسيا وطاجيكستان وتركمانستان وأوكرانيا وأوزبكستان.
لكن كيف ولماذا سقط؟
ليس هناك سبب واحد تسبب في تفكك الإمبراطورية السوفياتية، لكنّ عددًا لا يحصى من المشاكل النظامية والكوارث التي يمكن تجنبها أدت إلى نهاية الاتحاد السوفياتي، إلا أن العامل الحاسم المؤثر في الانهيار البطيء للاتحاد السوفياتي كان الحرب الطويلة والمكلفة في أفغانستان.
فمنذ عام 1979، والقوات السوفياتية تقاتل "الإرهابيين" في أفغانستان إلى جانب الحزب الشيوعي الأفغاني للسيطرة على الحدود الأفغانية وتأمين احتياطيات النفط التي تشتد الحاجة إليها.
ولمدة عشر سنوات حتى عام 1989، ضخ الاتحاد السوفياتي الأموال والقوات في الصراع الأفغاني، ما أفقده قرابة 15 ألف جندي سوفيتي، وإصابة 50 ألفًا آخرين، بتكلفة تقديرية على الاقتصاد السوفياتي بلغت 50 مليار دولار، في الوقت الذي كان فيه الاقتصاد راكدا.
ومع ذلك، فإن المكاسب الاقتصادية والسياسية القليلة التي كان الاتحاد السوفياتي يأمل في تحقيقها من الصراع، لم تتحقق، جراء التكلفة الهائلة للحرب.
ورغم أن الجيش السوفياتي تلقى تدريبات على خوض معارك برية واسعة النطاق تشمل كتائب دبابات ودعم جوي وأسلحة نووية تكتيكية، إلا أنه كان غير مجهز للتعامل مع التضاريس الأفغانية وتكتيكات حرب العصابات.
اقتصاد فاشل
حافظ الاتحاد السوفياتي على معدل نمو مثير للإعجاب وإيجابي في الغالب من عام 1928 إلى عام 1989، باستثناء أوقات الصراع، إلا أنه مع ذلك، فإن هذا الاتجاه تحقق على حساب السلع الاستهلاكية ومستويات المعيشة، وظهرت علامات التباطؤ الاقتصادي في السبعينيات، والتي تميزت بمصطلح الركود.
وكانت أحد الأسباب الكامنة وراء الانهيار نتائج قرارات التخطيط غير الفعالة - على وجه الخصوص، فالقرار الذي تم اتخاذه في عام 1976 للتحول من سياسة "واسعة النطاق" تضمنت توسيع الإنتاج من خلال الزيادات الكبيرة في العمالة ورأس المال إلى سياسة "مكثفة" نمو ملحوظ باستخدام الموارد بشكل أكثر كفاءة، أدت إلى زيادة في النقص في المنتجات الاستهلاكية الأساسية وزيادة الفساد.
وكان نقص المنتجات الاستهلاكية والمواد الأساسية مثل الخبز والحليب واللحوم واسع الانتشار، لدرجة أن مواطني الاتحاد، كانوا ينتقلون من جميع أنحاء البلاد إلى موسكو للتسوق في محلات السوبر ماركت المجهزة خصيصًا لنخبة الحزب الشيوعي.
وعلى الرغم من ثرائه بالموارد مثل الغاز الطبيعي والنفط، كان الاتحاد السوفياتي يعتمد على سعر السوق لهذه الصادرات، وعندما تراجعت أسعار الغاز والنفط خلال الثمانينيات، كان النمو الاقتصادي للاتحاد السوفياتي محدودًا للغاية، والذي تفاقم بسبب التكلفة المالية للحفاظ على النفوذ في أوروبا الشرقية، وكوبا، والحرب في أفغانستان، وكارثة تشرنوبيل.
كارثة تشيرنوبيل
وفي مذكراته المنشورة عام 1996، قال ميخائيل غورباتشوف، إن السبب الحقيقي لانهيار الاتحاد السوفياتي كان كارثة تشيرنوبيل النووية. وفي 26 أبريل/نيسان 1986، تعرض المفاعل رقم 4 في محطة تشيرنوبيل النووية لفشل ذريع خلال اختبار السلامة، مما أدى إلى انتشار الغبار والحطام المشع للغاية عبر منطقة واسعة، وسرعان ما حذرت الدول الغربية من وقوع حادث نووي على نطاق لم يسبق له مثيل في مكان ما في العالم.
في هذه الأثناء، لم يكن الآلاف من سكان بلدة بريبيات المجاورة والاتحاد السوفياتي على علم بحدوث أي شيء، لذلك استمر المفاعل في الاحتراق، وأطلق مواد كيميائية مشعة في الهواء بينما سار مواطنو كييف، المدينة التي يسكنها ملايين الأشخاص، للاحتفال بالعيد السوفياتي في الأول من مايو/أيار عام 1986.
وفي نهاية المطاف، اضطر ميخائيل جورباتشوف والاتحاد السوفياتي، تحت ضغط دولي هائل، إلى الاعتراف بحدوث حادث نووي، مما أدى إلى استدعاء 800 ألف جندي من الاتحاد السوفياتي للمساعدة في تنظيف الحطام المشع وإخماد النيران وإغلاق المفاعل، مما كلف نحو 235 مليار دولار.
إلا أنه مع ذلك، فإن التكلفة الحقيقية لتشرنوبيل وربما السبب الذي جعل غورباتشوف والمؤرخين السوفييت يعتبرونها المسمار الأخير في نعش الاتحاد السوفياتي هي الخسائر في الأرواح البشرية وفقدان الثقة في النظام الشيوعي.
انتخاب غورباتشوف
انتخب ميخائيل غورباتشوف أمينًا عامًا للحزب الشيوعي للاتحاد السوفياتي عام 1985 بعد وفاة سلفه، بسبب حضوره النشط والمفعم بالحيوية، ليبدأ عهدًا من الإصلاحات ندد خلاله بالفساد وتحدث عن سياسات مثل التعايش السلمي القائم على المساواة والتحرر الوطني وتقرير المصير وإنهاء سباق التسلح.
وفي اجتماع حزبي في فبراير/شباط 1986، ناقش ميخائيل غورباتشوف مسألة الحاجة إلى البيريسترويكا، أو "إعادة هيكلة" الاقتصاد، في سياسة كانت تتكئ على عدة محاور؛ بينها: تحديث مجمع بناء الآلات، وتحقيق إعادة البناء المخطط لاقتصاد الدولة وإعادة توجيهه الاجتماعي؛ وربط التخطيط على نطاق واسع بتطوير علاقات الصرافة؛ وتهيئة الظروف الاقتصادية اللازمة لتحقيق الاكتفاء الذاتي المالي والتمويل الذاتي للمؤسسات دون دعم الدولة، وإنشاء المجمعات العلمية والتقنية الكبرى.
كما كانت ترتكز تلك السياسة على "دمقرطة" السوفييتات أو المجالس على جميع المستويات؛ وتوسيع حقوق وسلطات الأقاليم والأقاليم والجمهوريات، ومنع الحرب النووية؛ والانتقال من المواجهة إلى نزع السلاح الحقيقي؛ وتقوية الوفاق الاشتراكي.
عواقب وخيمة
إلا أن "إعادة هيكلة" الاقتصاد هذه أدت إلى عواقب وخيمة؛ فجرى إنتاج ما لا يحتاجه الاقتصاد فعلاً، مما جعل هناك شحًا في المنتجات التي كانت مطلوبة بالفعل في مناطق معينة، بشكل أثار الغضب.
ونتيجة لتلك السياسة، أضرب عمال مناجم الفحم في دونباس عام 1989، لأنهم لم يكن لديهم صابون لغسل أنفسهم به بعد يوم طويل من العمل الشاق بسبب النقص، فيما انضم المثقفون إلى التظاهرة.
قانون عام 1988 بشأن التعاونيات، كان أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي، والذي أدى إلى ظهور نوع من نظام بنك الجيب الذي حقق أرباحًا كبيرة لمجموعة صغيرة من الأشخاص داخل الشركة.
وجراء هذه السياسات، ظهر المزيد من الانتقادات لسياسات الحزب الشيوعي في وسائل الإعلام، وانخفض التأثير العام للحزب على وسائل الإعلام، التي قدمت الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى، على سبيل المثال، بطريقة أكثر ودية مما كانت عليه في السابق.
في أعقاب إصلاحات ميخائيل غورباتشوف والنهج الأكثر ليونة للمعارضة وحرية التعبير، اندلعت موجة من حركات الاستقلال عبر بلدان الكتلة الشرقية.
ففي أوائل الثمانينيات، شهدت بولندا، التي كانت حكومتها الشيوعية حليفًا قويًا للاتحاد السوفياتي، موجة من الاضطرابات، نظم خلالها عدد من الاحتجاجات على نقص السلع الاستهلاكية والغذاء وغيرها من الأشياء الضرورية. وبحلول عام 1989، تم انتخاب منظمة تضامن في الحكومة البولندية وتعهدت بتحرير بولندا من الحكم السوفياتي.
كما شهدت دول الكتلة الشرقية الأخرى مثل المجر ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا حركاتها الثورية المناهضة للسوفيات. وفي الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني 1989، فُتحت الحدود بين ألمانيا الشرقية والغربية وأسقط جدار برلين، وهو الفصل بين الشيوعية والرأسمالية، مما أذن بنهاية فعلية للحرب الباردة والنفوذ السوفياتي في الشرق.
صعود الانفصالية
ومع انهيار الكتلة الشرقية وسقوط جدار برلين، أعلنت دول البلطيق عزمها على الانفصال عن الاتحاد السوفياتي. بعد ذلك بوقت قصير، انضمت أرمينيا ومولدوفا وأوكرانيا وجورجيا إلى حركة الاستقلال. وفي خطوة مذهلة، صوّت بوريس يلتسين، زعيم الجمهورية السوفياتية الروسية، على ترك الحزب الشيوعي وإعلان السيادة الروسية رسميًا.
وفي أغسطس/آب 1991 ، في محاولة للبقاء في السلطة، أطلق المتبقون من قيادة الحزب الشيوعي محاولة انقلابية ضد ميخائيل غورباتشوف، الذي اعتبروه ضعيفًا وعاجزًا لوقف انهيار الاتحاد السوفياتي.
ورغم فشل الانقلاب إلا أنه دفع المزيد من الدعم نحو فكرة الاستقلال التام. وفي الثامن من ديسمبر/كانون الأول 1991، وقع زعماء أكبر ثلاث جمهوريات سوفياتية وأقواها، أوكرانيا وروسيا وبيلاروسيا، على اتفاقيات بيلوفيزا، وهي معاهدة أبطلت الاتحاد السوفياتي وألغيت وجوده، مما ترتب على ذلك إلغاء الحزب الشيوعي بالكامل وحل الاتحاد السوفياتي رسميًا في 31 ديسمبر/كانون الأول 1991.
ما أهمية ذلك اليوم؟
رغم انهيار الاتحاد السوفياتي قبل 31 عامًا، إلا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، استخدم رموزاً وشعارات ومبادئ من عصور مختلفة من الماضي الروسي والسوفياتي لتعزيز موقع الرئاسة في روسيا وجعله رمزاً للكرامة الوطنية.
تلك الشعارات، حاولت الرئاسة الروسية الربط بينها لتصبح مصدراً للفخر وللوطنية. ورغم أن أحد الأسباب التي دفعت بروسيا إلى شن عملية عسكرية في أوكرانيا تأمين حدودها، إلا أن حلم استعادة الاتحاد السوفياتي لا زال يراود القادة الروس وعلى رأسهم فلاديمير بوتين.
ذلك الحلم، جعل "التوتر" سيد الموقف بين روسيا التي تعمل على دورها المركزي ومجال نفوذها، والعديد من الدول التي استقلت في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، وخاصة بعد العملية الروسية في أوكرانيا، والتي تفرض نفسها بقوة على المشهد الجيوسياسي في أوروبا وخارجها.
وبينما تعرض ميخائيل غورباتشوف لانتقادات لتخليه عن العديد من مواقع القوة التي اكتسبها الاتحاد السوفياتي السابق مثل الانسحاب السريع للقوات السوفياتية من ألمانيا الشرقية، يعارض فلاديمير بوتين اقتراب الناتو من الحدود الروسية، بالإضافة إلى أنه مستعد لاستخدام القوة لدعم موقفه.
aXA6IDMuMTQ0LjQzLjE5NCA=
جزيرة ام اند امز