يمتلك الغرب الأوروبي وامتداداته في أمريكا الشمالية مخزونا استراتيجيا هائلا من معارف ومفاهيم ومصطلحات، خصوصا في السياسة والعلاقات الدولية.
هذا المخزون يساعد العالم الغربي في الانتقال من الموقف إلى نقيضه بصورة غاية في المرونة واليُسر، محافظا على هيبته، ومرجعيته، وقيادته العالم.. لأنه غالبا ما يغطي المواقف المتدنّية بمفاهيم ومصطلحات فخيمة عظيمة تبهر القارئ، وتشعره بمدى حكمة القيادات الغربية وعلو قدرها، وتمسكها بالقيم الإنسانية السامية.
لقد بررت الدول الغربية موقفها من أوكرانيا بتقديم شعارات إنسانية تبهر العالم مثل "احترام القيم الديمقراطية"، و"عدم السماح للدكتاتوريات بأن تنتصر على النظم الديمقراطية"، ومثل "احترام سيادة الدول وعدم السماح بالتعدي على هذه السيادة"... إلخ.
وبالتأكيد لم تقل الدول الغربية إنها وقفت ضد روسيا في أوكرانيا "من أجل مصالحها الذاتية" و"لكي تحافظ على توازن القوى"، و"من أجل الرغبة في تحجيم روسيا والصين"، ولن تقول ذلك بالتأكيد.
وحين تسأل: أين هذه المواقف الأخلاقية والسامية من حالات مماثلة مثل أفغانستان والعراق والصومال واليمن وسوريا وليبيا والعديد من دول أفريقيا وآسيا؟
تكون الإجابة دائما بأن الظروف المحيطة والسياقات الداخلية والإقليمية والدولية تختلف.. وكأن هذه القيم ليست مطلقة في ذاتها، وإنما نسبية يختلف معناها وموقعها من مكان إلى آخر حسب الموقع الجغرافي للدولة، ولون بشرة سكانها، وثقافة شعبها.
وحين أدركت الدول الغربية أنه من الصعب -إن لم يكن من المستحيل- هزيمة روسيا وانتصار أوكرانيا، كان المخزون الاستراتيجي من المفاهيم والمصطلحات جاهزا، هنا تم رفع شعار "البراجماتية" أو "الذرائعية"، وهي فلسفة بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية في 1870 على يد فيلسوف سويدي هاجر إلى أمريكا الشمالية هو "تشارلز ساندرز بيرس".. وتقوم فلسفته على الاهتمام بنتائج القيم والمعاير والأخلاقيات والأفعال، وليس بمضمونها ولا بمحتواها، فدائما يجب التفكير في نتائج الأفعال، ونتائج تطبيق القيم والأخلاق، ومن خلال معرفة هذه النتائج يتم تحديد قيمة كل فعل أو كل معيار أو خلُق.
والبراجماتية حاليا هي المَخرج الذي وجده السياسيون الغربيون للاستدارة في موقفهم من روسيا وأوكرانيا، وقد بدأت الإدارة الأمريكية الأسبوع الماضي تتحدث عن ضرورة التفكير بصورة براجماتية في التعامل مع روسيا، وأنه لا بد في النهاية من الحوار والتفاوض مع روسيا، لذلك بدأت الاتصالات بين وزيرَي دفاع البلدين، وكذلك بين رئيسي الأركان، والأمر نفسه تكرر مع بعض الدول الأوروبية.
وتحت وقع المظاهرات، التي بدأت تخرج في العديد من الدول الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا، مطالبة بتحسين الأحوال الاقتصادية وتوفير المحروقات وتشغيل المصانع مع قدوم فصل الشتاء والخوف من عدم كفاية مخزون المحروقات، ومع التغيير المتسارع للحكومات، والذي بدأ يأتي بأحزاب أقصى اليمين، كما حدث في إيطاليا، سوف تفكر الدول الأوروبية بصورة براجماتية وتبدأ في الحوار مع روسيا، وهنا سوف يسقط شعار "لن نسمح بانتصار بوتين"، لأنه طبقا للفلسفة البراجماتية لن يأتي بنتائج في صالح المواطن الأوروبي أو الأمريكي.
ومع التحول من المبادئ إلى المصالح، ومن القيم المطلقة إلى النتائج البراجماتية أو الذرائعية، سوف يصبح مصير أوكرانيا أيضا منظورًا إليه من زاوية "المصالح البراجماتية"، وقد تكون نهاية هذه الدولة.. حينها سيكون الوقت قد فات والفرصة قد ضاعت، ودخل الرئيس الأوكراني ووزير خارجيته في مصير لم يخطر لهما على بال، وقد بدأت بولندا تعد العدة القانونية لضم النصف الغربي لأوكرانيا.. ومن المؤكد أن البراجماتية ستكون هي المَخرجَ الوحيد للحفاظ على وحدة أوروبا التي أصبحت موضع شك كبير.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة