في عام 2008 حصلت أوكرانيا على وعد من حلف الناتو بضمها إلى صفوفه، ولكن ذلك الوعد لم ينفذ.
كل ما جرى أن الغرب توسع تدريجيا في ذلك البلد الأوروبي، بعد أن تمدد على أربع عشرة دولة كانت ضمن الاتحاد السوفييتي سابقاً، وعندما ضم فلاديمير بوتين شبه جزيرة القرم، ودعم الانفصاليين الأوكرانيين على الحدود الجنوبية لبلاده، أدرك حلف شمال الأطلسي أن الوقت قد فات.
ما يحاول الأوروبيون والأمريكيون فعله اليوم هو منع روسيا من غزو أوكرانيا، ليس بقوة السلاح وإنما بالقوتين الدبلوماسية والاقتصادية. النتيجة حتى الآن ليست في متناول اليد لأن موسكو تريد ضمانات بأن يصرف الناتو النظر عن التمدد في القارة العجوز على حسابها. وبالتالي لا يكون هناك مبرر للقلق من أن تكون كييف أو غيرها من عواصم أوروبا الشرقية منصة إطلاق صواريخ أمريكية على الروس.
ربما يخبئ "بوتين" أهدافاً سياسية داخلية وراء أزمة أوكرانيا ويريدها أن تكون بوابته لولاية رئاسية جديدة عام 2024.
إن صح ذلك، فإنه يدلل على مدى حساسية الحضور الغربي في الدول السوفييتية سابقا، وبخاصة أوكرانيا التي يجمعها تاريخ طويل ووثيق مع روسيا.
يعي "القيصر" ذلك جيدا جداً، وقد أحسن إدارة ملفات مماثلة خلال سنوات حكمه المستمرة منذ عام 2000 بين رئيس ورئيس حكومة.
السيطرة على حرب إقليم كاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان مثال جيد على ذلك، وكذلك دعم بيلاروسيا في أزمة اللاجئين الأخيرة بينها وبين بولندا. هذا بالإضافة إلى أن "بوتين" جعل روسيا شريان الغاز الأساسي إلى الاتحاد الأوروبي عبر خطي "نورد ستريم" الأول والثاني.. فأصبحت روسيا قوة اقتصادية كبيرة، إلى جانب كونها قطبا عسكريا حقيقيا لا تريد أي دولة غربية خوض مواجهة معه لأي سبب.
ولا نذيع سرا بالقول إن مشكلة كييف تكمن في التجنب الغربي لخوض المواجهة العسكرية مع موسكو. وبالتالي عندما تحين الساعة ويبدأ زحف الدب الروسي عبر الحدود لن يصمد الأوكرانيون وقتا طويلا قبل أن تقع بلادهم الشاسعة في قبضة "بوتين"، خاصة أن بينهم من ينتظر هذه اللحظة ويبشر بها، بل يستعد لأن يكون المندوب الروسي السامي ويعيد مجد الإمبراطورية السوفييتية.
لا يُخفي الرئيس الروسي هذا الحلم، فهو يعتبر تفكك الاتحاد السوفييتي في شهر ديسمبر عام 1991 "خسارة روسيا العظيمة" لأنه نسف ما بُني على مدار ألف سنة. ومثل هذه التصريحات التي صدرت عن "بوتين" في مقابلة أجراها قبل أيام قليلة تُقلق الغرب، لأنها تقول ببساطة إن الحرب الباردة لم تنتهِ بالنسبة لهذا الرجل، وهو لن يدخر جهدا حيال أي فرصة لاسترداد مجد بلاده "الضائع".
الحضور الكبير واللافت في المنطقة العربية خلال العقد الأخير، زاد القوة الروسية وعزز من أحلامها عالمياً. ناهيك بتلك العلاقات الجيدة التي نسجتها روسيا مع كل من الصين والهند وإسرائيل، بالإضافة إلى نجاحها في توريد منظومة صواريخها الدفاعية "إس 400" إلى تركيا، الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي.
تقول وكالة بلومبيرج إن الاقتصاد الروسي نما في عهد "بوتين" حتى بات ينافس دولا أوروبية في نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي. ووفقا لتصنيف صندوق النقد الدولي، يعتبر الاقتصاد الروسي واحدا من الاقتصاديات "الأكثر صحة في العالم"، كما تُظهر بيانات البنك المركزي الروسي أن احتياطيات موسكو الدولية نمت من 11.5 مليار دولار عام 1999 إلى 542 ملياراً في شهر أكتوبر 2019.
هذه "الإنجازات" السياسية والاقتصادية للرئيس "بوتين" تُقلق الغرب في المواجهة بين روسيا وأوكرانيا، خاصة إذا ما ترافقت مع الترابط التاريخي الوثيق والطويل بين الدولتين، وما يعنيه بالنسبة للروس والأوكرانيين الانفصاليين على السواء، فالعاصمة الأوكرانية كييف كانت عاصمة روسيا القديمة عام 988م. كما أن الدولتين توحدتا تحت حكم القيصر الروسي عام 1654م. جغرافيا وسياسيا واقتصاديا.
بحسب المسؤولين، لن يرسل الأوروبيون والأمريكيون قوات للدفاع عن أوكرانيا، كما أن العقوبات مهما بلغت شدتها لن تردع "بوتين" إذا ما أصر حلف الناتو على ضمه ذلك البلد الأوروبي، ناهيك بأن السيطرة على أوكرانيا ستمد الروس بدعم اقتصادي ملحوظ، فلطالما كان الاقتصاد الأوكراني في المرتبة الثانية ضمن دول الاتحاد السوفييتي سابقاً، لكونه عنصراً صناعياً وزراعياً هاماً.
رغم كل ذلك، لن يزحف جيش "بوتين" نحو أوكرانيا إلا إنْ نفدت خيارات التفاهم مع الغرب، فالروس يخشون مستنقعات الحروب الخارجية مهما بدت سهلة، وهم يدركون أن معارضة داخلية طويلة الأجل قد تنشأ ضدهم في أوكرانيا، ولن يهنأ أنصارهم بالسيطرة على مساحة تمتد على أكثر من ستمائة ألف كم مربع، ولا بقيادة شعب يزيد تعداده على اثنين وأربعين مليون نسمة وفق إحصائيات 2017.
ربما تراهن موسكو على أن دول الاتحاد الأوروبي لن تجتمع على كلمة واحدة في معاقبتها لغزو كييف، ولكن الخشية من التمدد الروسي أبعد من أوكرانيا ستكون كافية لاتخاذ التكتل ومن خلفه الولايات المتحدة جملة من الإجراءات "المؤذية" للروس على المديين المتوسط والطويل. خاصة إنْ لجأت روسيا في هذا الغزو إلى الحصار والتجويع وارتكاب ما يثير نقمة المجتمع الدولي بأكمله.
للروس تجربة غير ناجحة تستدعيها الذاكرة في هذا الإطار، وهي محاصرة ألمانيا الغربية عام 1948م. فحينها أنشأت أمريكا وبريطانيا ودول غربية أخرى جسرا جويا أمد سكان برلين بالوقود والغذاء لأكثر من خمسة عشر شهراً. ليس هذا فقط وإنما استخدم الحصار لحشد التأييد الغربي ضد الاتحاد السوفييتي، كما بُني عليه الكثير من الترتيبات التي مهدت لقيام الناتو عام 1949.. وكما يقول الكاتب الأيرلندي جورج برنارد شو: "النجاح ليس عدم فعل الأخطاء، وإنما عدم تكرارها".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة