حرب أوكرانيا.. صحيفة تكشف كواليس 3 أشهر قبل عملية روسيا
في صبيحة أحد أيام أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وخلال اجتماع عاجل ناقش الرئيس الأمريكي وكبار قادة الاستخبارات والجيش الأمريكي، خططا روسية زعمت اقتراب الهجوم على أوكرانيا.
ووصل القادة الأمنيون والدبلوماسيون الأمريكيون وبصحبتهم تحليل استخباراتي فائق السرية، تم جمعه من صور الأقمار الصناعية واتصالات تم اعتراضها، فضلا عن معلومات من مصادر بشرية، تزعم أنها خطط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحربية لشن حرب شاملة على أوكرانيا، بحسب صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية.
وعلى مدار شهور، راقب المسؤولون في إدارة بايدن بحذر بينما يحشد بوتين عشرات الآلاف من القوات والدبابات والصواريخ على طول الحدود الأوكرانية.
ومع اقتراب نهاية فصل الصيف، ركز مستشار الأمن القومي جيك سوليفان على زيادة حجم المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بروسيا وأوكرانيا.
وعقد اجتماع بالمكتب البيضاوي بعدما تحول عدم اليقين بشأن نوايا روسيا إلى القلق والتشكك بشأن تحول الخطط الروسية من احتمالات العمل العسكري، إلى الإنذار بالخطر.
وكان الاجتماع أحد عدة لقاءات أجراها المسؤولون بشأن أوكرانيا ذاك الخريف – وأحيانا كانوا يجتمعون في مجموعات أصغر.
وحضر اللقاء بايدن ونائبته كامالا هاريس، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، ووزير الدفاع لويد أوستن، ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي، ومديرا الاستخبارات الوطنية ووكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه".
وبتكليف من سوليفان لتكوين فكرة عامة شاملة عن نوايا روسيا، أخبروا بايدن بأن المعلومات الاستخباراتية عن الخطط العملياتية الخاصة ببوتين، بالإضافة إلى عمليات الانتشار المستمرة على طول الحدود مع أوكرانيا، أظهرت الجاهزية لهجوم شامل.
وقال مسؤولون أمريكيون إن مجتمع الاستخبارات الأمريكي اخترق عدة نقاط في القيادة السياسية الروسية، وجهاز التجسس والجيش، من المستويات العليا إلى الخطوط الأمامية.
* خطط بوتين
وطبقا لـ"واشنطن بوست" نقلا عن التقارير الاستخبارتية "كانت خطط بوتين الحربية تصور سيطرة على معظم أجزاء أوكرانيا، بشكل أكثر راديكالية من ضم موسكو لشبه جزيرة القرم عام 2014 وتحريض الحركة الانفصالية في شرق أوكرانيا".
وكانت الخطة الروسية تتسم بجراءة مذهلة، فهي خطة يمكنها أن تشكل تهديدا مباشرا على الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، أو حتى تدمير بنية أوروبا الأمنية بعد الحرب العالمية الثانية.
وبعدما استوعب الإحاطة، كان بايدن، الذي وعد بإبقاء بلاده بعيدا عن أي حروب جديدة، مصمما على أنه يجب إما ردع بوتين وإما مواجهته، وأنه لا يجب على الولايات المتحدة العمل وحدها، لكن لم يكن حلف الناتو متحدا بشأن كيفية التعامل مع موسكو، وكانت مصداقية الولايات المتحدة ضعيفة.
وبعد الغزو الكارثي للعراق، والفوضى التي تلت الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وأربعة أعوام من سعي الرئيس السابق دونالد ترامب لتقويض التحالف، لم يكن مؤكدا أنه بإمكان بايدن أن يقود فعليا الرد الغربي على هجوم روسيا.
وكانت أوكرانيا جمهورية سوفيتية سابقة مضطربة لها تاريخ من الفساد، وكان رد الولايات المتحدة والحلفاء على الهجوم الروسي السابق هناك غامض ومنقسم، وفقا للصحيفة.
وعندما تأتي الحرب، كان الأوكرانيون سيحتاجون أسلحة جديدة للدفاع عن أنفسهم، ولا يوجد الكثير مما يضمن انتصار روسيا، لكن الكثير قد يشعل صراعا مباشرا للناتو مع روسيا المسلحة نوويا.
وتسلط هذه الرواية، التي جاءت في تفصيلة لم يتم الإبلاغ عنها من قبل، ضوءا جديدا على المهمة الشاقة لاستعادة مصداقية الولايات المتحدة، والمحاولة لموازنة السرية حول المعلومات الاستخباراتية مع الحاجة لإقناع الآخرين بحقيقتها، والتحدي المتمثل في تحديد كيف سيساعد أقوى تحالف عسكري في العالم ديمقراطية أقل من مثالية على الحدود الروسية دون أن يطلق الناتو رصاصة واحدة؟
وخلال سلسلة مقالات تتناول الطريق إلى الحرب والحملة العسكرية في أوكرانيا، انبثقت الرواية من حوارات معمقة مع العشرات من كبار المسؤولين الأمريكيين والأوكرانيين والأوروبيين بشأن أزمة عالمية لم تحدد نهايتها بعد. وتحدث البعض شريطة عدم كشف هويتهم لمناقشة معلومات استخباراتية حساسة ومداولات داخلية.
ولم يرد الكرملين على طلبات متكررة للصحيفة للتعليق على المسألة.
ولخص ميلي والآخرون نوايا بوتين، حيث قال للرئيس: "نقيّم أنهم يخططون لتوجيه ضربة استراتيجية كبيرة على أوكرانيا من عدة اتجاهات في نفس الوقت".
وطبقا للمعلومات الاستخباراتية، كان سيأتي الجيش الروسي من الشمال، على أي جانب من كييف.
كما ستتحرك قوة واحدة شرق العاصمة عبر مدينة تشيرنيهيف الأوكرانية، بينما ستحيط الأخرى العاصمة كييف من الغرب، تدفع جنوبا من بيلاروسيا عبر الفجوة الطبيعية بين "منطقة الاستبعاد" في محطة تشيرنوبل النووية والأهوار المحيطة.
وسيقع الهجوم في الشتاء حتى تسهل الأرض الصلبة مرور الدبابات. وخططت القوات الروسية للسيطرة على كييف خلال أربعة أيام.
وكان من المفترض أن تجد القوات الخاصة الروسية، "سبيتسناز" الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وتطيح به، وتقتله إن تطلب الأمر، وتنصيب حكومة صورية صديقة للكرملين.
وحصلت الولايات المتحدة على "تفاصيل استثنائية" بشأن خطط الكرملين السرية لحرب واصلت إنكار نيتها بشأنها، بحسب ما أوضحته مديرة الاستخبارات الوطنية أفريل هينز لاحقا.
ولم تتضمن تلك التفاصيل موقع الجنود والأسلحة واستراتيجية العمليات فحسب، وإنما أيضًا النقاط المهمة مثل "الزيادة الحادة وغير المعتادة لبوتين في تمويل عمليات الطوارئ العسكرية ولتشكيل قوات احتياط حتى مع وجود احتياجات ملحة أخرى، مثل الاستجابة للجائحة، تواجه نقصا بالموارد".
وضغط بايدن على مستشاريه، وكرر أسئلته هل اعتقدوا حقًا أن بوتين سيضرب هذه المرة؟ حيث كان الجواب: "نعم، هكذا أكدوا. هذا حقيقي"، بحسب "واشنطن بوست".
وبالرغم من أن الإدارة الأمريكية ستصر علانية على مدار السبعة أشهر التالية أنها لا تعتقد أن بوتين اتخذ قرارا نهائيا، كان الأمر الوحيد الذي لم يتمكن الفريق من أن يخبر بايدن به في ذاك اليوم من الخريف، هو التوقيت المحدد الذي سيقدم فيه الرئيس الروسي على خطوته.
* إبلاغ زيلينسكي بالخطة
وقال مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وليام بيرنز، الذي شغل منصب سفير أمريكا في موسكو وكان أكثر من تواصل مباشرة مع بوتين أكثر من أي شخص آخر في إدارة بايدن، إن الزعيم الروسي يركز اهتمامه على أوكرانيا.
وأضاف بيرنز بعدها بشهور: "اعتقدت أنه كان جادا جدا".
وفي الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني، تم اصطحاب بيرنز إلى مكتب يوري أوشاكوف في الكرملين، وهو مستشار السياسة الخارجية لبوتين والسفير السابق لدى الولايات المتحدة.
وكان رئيس أوشاكوف على الطرف الآخر من الهاتف وتحدث مع بيرنز من مدينة سوتشي، الذي ذهب إليها خلال موجة أخرى من الإصابات بفيروس كورونا في موسكو.
وكرر الزعيم الروسي شكواه المعتادة بشأن توسع الناتو، وتهديد أمن روسيا، والقيادة غير الشرعية في أوكرانيا.
وتذكر بيرنز: "كان رافضا جدا للرئيس زيلينسكي كقائد سياسي".
وأبلغه بيرنز بالرسالة القوية: "تعرف الولايات المتحدة ما تنوي القيام به، وإذا هاجمت أوكرانيا، فستتكبد ثمنا باهظا"، وقال إنه سيترك خطابا من بايدن، يؤكد فيه على التداعيات العقابية حال وقوع هجوم روسيا على أوكرانيا.
وفي الوقت الذي كان يتحدث فيه بيرنز مع بوتين، جلس بلينكن مع زيلينسكي في مدينة جلاسكو باسكتلندا، على هامش قمة دولية عن تغير المناخ.
وحينها شرح الوزير الأمريكي الصورة الاستخباراتية، وذكر بالاسم موسكو بأنها تتجه نحو أوكرانيا.
وقال بلينكن: "كنا نحن الاثنين فقط، على بعد قدمين من بعضنا.. كانت محادثة صعبة".
ووجد بلينكن الرئيس الأوكراني "رزينا، ومتأنيا، وجادا"، مزيج من التصديق وعدم التصديق، وقال إنه "سيخبر فرقه".
لكن الأوكرانيين "شهدوا عددًا من الخدع الروسية في الماضي"، كما علم بلينكن، وكان من الواضح أن زيلينسكي قلقًا من الانهيار الاقتصادي إذا أصيبت بلاده بحالة ذعر.
وسمع زيلينسكي التحذيرات الأمريكية، لكنه قال إن الأمريكان لم يقدموا أنواع الأسلحة التي احتاجتها أوكرانيا للدفاع عن نفسها.
وقال زيلينسكي: "يمكنك أن تقول لمليون مرة: اسمع، قد يحدث غزو. حسنا، قد يحدث هجوم – هل ستعطينا طائرات؟ هل ستعطينا دفاعات جوية؟ حسنا، لست عضوا في الناتو.. آه، حسنا، إذن ما الذي نتحدث عنه؟".
وقال وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا إن الأمريكان قدموا قليلا من المعلومات الاستخباراتية المحددة لدعم التحذيرات "حتى آخر أربعة أو خمسة أيام قبل بدء الحرب".
وشكك عدد من المسؤولين الأمريكيين في روايات الأوكرانيين، قائلين إنهم قدموا لحكومة كييف معلومات محددة في وقت مبكر وطول الفترة التي سبقت الحرب.
وخلال اجتماع جانبي بمؤتمر مجموعة العشرين في روما نهاية أكتوبر/تشرين الأول، شارك بايدن بعض المعلومات الاستخباراتية الجديدة والاستنتاجات مع أقرب حلفاء أمريكا – قادة بريطانيا وفرنسا وألمانيا.
وكان الغالبية متشككين، وأشاروا إلى أن زيلينسكي بدا وكأنه يعتقد أن روسيا لن تهاجم أبدًا بالطموح والقوة التي توقعها الأمريكيون.
وتذكرت باريس وبرلين المزاعم الأمريكية بشأن المعلومات الاستخباراتية عن العراق، حيث خيمت ظلال التحليل الخاطئ المتعلق بالأخيرة على جميع المناقشات التي سبقت الحرب في أوكرانيا.
وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يتعاملون مع بوتين لسنوات، ووجدوا أنه من الصعب تصديق أنه غير عقلاني لدرجة شن حرب كارثية. وخلال الأسابيع التي تلت قمة جنيف، حاولا ترتيب قمة أوروبية روسية لكن لم تتكلل جهودهما بالنجاح.
وبعدها بأشهر، وبالرغم من المعلومات الاستخباراتية الأمريكية الجديدة، أصرت فرنسا وألمانيا أن هناك فرصة للدبلوماسية. لكن كان لدى الأمريكيين والبريطانيين أمل ضئيل في أن أي جهد دبلوماسي سيؤتي ثماره، لكنهم كانوا مستعدين لإبقاء الباب مفتوحًا - إذا قدم الأوروبيون شيئًا في المقابل.
وقال سوليفان: "جزء كبير من تركيزنا كان أن نقول لهم في الأساس: انظروا، سنتخذ المسار الدبلوماسي وسنتعامل معه بجدية... إذا تعاملتم بجدية مع التخطيط لوضع القوة [العسكرية] والعقوبات".
واعتقد كوليبا وآخرون في الحكومة أنه ستقع حرب، بحسب ما قاله وزير الخارجية الأوكراني لاحقا.
لكن حتى عشية الحرب، "لم أصدق أننا سنواجه حربا بمثل هذا الحجم. البلد الوحيد في العالم الذي كان يخبرنا بإصرار بمثل هذا اليقين أنه ستكون هناك ضربات صاروخية كانت الولايات المتحدة الأمريكية. لم تكن كل دولة أخرى تشارك هذا التحليل وكانت تقول بدلًا من ذلك إن الحرب ممكنة، لكنها ستكون بالأحرى صراعا محليا في شرق أوكرانيا".
وبتصريح من وكالة الأمن القومي، أنشأت الولايات المتحدة خط اتصال مباشرا من أوكرانيا إلى القيادة الأمريكية في أوروبا.
وفي 18 فبراير/شباط، اتصل بايدن بقادة عدة دول حلفاء بالناتو وأخبرهم بأحدث تحليل أمريكي. وأخبر المراسلين في البيت الأبيض في وقت لاحق من ذاك اليوم: "اعتبارا من هذه اللحظة، أنا مقتنع بأنه (بوتين) اتخذ قراره بالهجوم لدينا سبب يدفعنا للاعتقاد في ذلك."
وبالنسبة لكوليبا، جاءت نقطة التحول في الأيام التي تلت قمة ميونج التي انعقدت في 18-20 فبراير/شباط، عندما سافر مجددا إلى واشنطن. وقال: "كانت هذه هي الأيام التي تلقيت فيها معلومات أكثر تحديدا".
وقيل له إنه بمطار محدد في روسيا هناك خمس طائرات نقل في حالة تأهب، مستعدة لنقل قوات المظلات في أي لحظة، ونقلهم باتجاه مطار محدد في أوكرانيا.
وفي وقت مبكر من مساء يوم 23 فبراير/شباط، تلقى البيت الأبيض معلومات استخباراتية عاجلة، وكانت هناك احتمالات كبيرة ببدء الحرب.
كانت القوات تتحرك، وأطلق الروس صواريخ على أهداف في أوكرانيا، وفور ذلك اجتمع كبار مستشاري الرئيس، في غرفة العمليات، في حين انضم آخرون عبر خط آمن.
وتحدث سوليفان مع مدير مكتب زيلينسكي، أندريه يرماك. وقال مصدر مطلع على المكالمة، إنه كان هناك "مستوى مرتفع للغاية من الاضطراب في كييف"، وفقا لـ"واشنطن بوست".
وطلب يرماك من سوليفان الانتظار، حيث أراد أن ينضم زيلينسكي للمكالمة للتحدث مباشرة مع بايدن.
وناشد زيلينسكي بايدن التواصل مع أكبر قدر ممكن من قادة العالم الآخرين والدبلوماسيين، وأن يطلب منهم التحدث علانية والاتصال ببوتين بشكل مباشر وأن يطلبوا منه "وقف ذلك".
وطلب زيلينسكي من بايدن "تزويده بكل المعلومات الاستخباراتية التي يمكنك الحصول عليها الآن"، وحينها قال الرئيس الأوكراني: "سنقاتل، سندافع، يمكننا الصمود، لكننا نحتاج إلى مساعدتكم".