يقول عالم فيزياء ألماني "إن الخبير يعرف أسوأ الأخطاء في مجاله، ويتفادها". ولكن وزيرة الداخلية البريطانية السابقة سويلا برافرمان كانت تقع في الأخطاء طوعا، ظنا بأنها محصنة من الطرد، وأنها تنطق بلسان حال غالبية البريطانيين.
لقد عاش حزب المحافظين انقساما إزاء سلوك وتصريحات برافرمان قبل إقالتها من منصبها. إلا أن معارضيها ظلوا "يضعون ملحا على الجرح" لأكثر من عام كامل، لأن الوزيرة السابقة كانت صوتا مسموعا لليمين المتشدد في الحزب. وأنصارها داخل البرلمان وخارجه، مؤثرون إلى حدود يتفادى مواجهتها رئيس الوزراء ريشي سوناك.
"الشعرة التي قصمت ظهر البعير" كانت صدام برافرمان مع الشرطة. وهي مشكلة لم يكن بإمكان رئيس الوزراء تجاهلها ولا احتوائها لسببين، الأول أن معاداة الشرطة ستضع الحزب الحاكم أمام مساءلات شعبية وسياسية كثيرة. والثاني أن غفران خطأ الوزيرة السابقة سيشجع كثيرين في الحكومة والبرلمان على التمرد ضده، ويدفعهم لتجاوزه باستخفاف في مرحلة لا يتمتع هو فيها أصلا بحاضنة قوية من النواب المحافظين.
رسالة "التهديد والتشهير" التي أرسلتها الوزيرة السابقة لسوناك بعد إقالتها تفضح "الغطرسة" التي كانت تعيشها. والأخطر من هذا أنها تكشف كيف ينظر وزراء ونواب في الحزب الحاكم لزعيمهم. فهو برأيهم مجرد "سياسي فاشل" لم يكن ليفوز أمام منافسيه، لولا تعاطفهم معه، وقبولهم به شرط أن يطلق العنان لأحلامهم السياسية.
الآن، وبعد أن انتهت أسباب تأييد رئيس الوزراء، سينقلب "تواطؤ" برافرمان إلى "مناكفة". ويصبح أنصارها أعداء لسوناك. فتشتعل جبهة داخلية جديدة ضده، وتتوسع قائمة خصومه الذين لم يعد يهمهم إن كان سيخسر في انتخابات البرلمان المقبلة، بقدر ما يهمهم النجاة بأنفسهم كنواب وساسة يمكن أن يعودوا إلى السلطة بعد سنوات.
رئيس الوزراء بات يحارب اليوم على ثلاث جبهات داخل "المحافظين"، الأولى يواجه فيها وزيرة الداخلية السابقة وأنصارها. والثانية تضم رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون مع أصحابه الذين يعتقدون أنه ضحية لخيانة الزعيم الحالي للحزب الحاكم. أما الثالثة فهي تجمع "حلفاء" سوناك الذين يساندونه بمقتضى تفاهمات ومصالح أبرموها معه قبل عام مقابل دعمه ضد جونسون وخليفته ليز تراس، تماما مثل برافرمان.
أمام هذه الجبهات وجد سوناك نفسه ضعيفا. ومثل كل مرة قرر الهروب من أزمته إلى الأمام. فجاء برئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون على رأس وزارة الخارجية، ليضرب عصفورين بحجر واحد. الأول هو أن تبتلع مفاجأة تعيين كاميرون في الحكومة تداعيات طرد برافرمان، إعلاميا وشعبيا. والثاني هو أن يعزز بطانته الحزبية بشخصية لا زالت تتمتع بقبول كبير بين المحافظين على اختلاف مستوياتهم ودرجات عضويتهم.
مقابل هذين الهدفين، تغاضى سوناك عن حقيقة أن عودة كاميرون تعني استدعاء كل الأخطاء السياسية التي وقع فيها خلال فترة توليه لرئاسة الوزراء بين ٢٠١٠ و٢٠١٦. كما أنها سوف تستفز الشارع المؤيد للبقاء داخل الاتحاد الأوروبي، ويحمل كاميرون مسؤولية "بريكست"، بكل تداعياته التي لا تزال البلاد تعاني منها حتى الآن.
تعيين كاميرون يجسد الهروب الثالث لسوناك منذ توليه رئاسة الوزراء قبل ما يزيد عن العام. الأول عندما طرح نفسه مصلحا لأخطاء سابقيه، فاصطدم بمعوقات داخلية وخارجية جعلته يراوح مكانه. والثاني عندما أعلن "ثورة" على عقود من السياسات الحكومية الخاطئة، وبدأ عصر "التغيير" بإلغاء مشروع القطار فائق السرعة الذي انتظره سكان مدن شمال إنجلترا لسنوات طويلة، من أجل توسيع التجارة والنقل مع لندن.
في الهروب الثالث استعان رئيس الوزراء بالماضي للتغلب على مشكلات الحاضر. فلجأ إلى كاميرون كي يعزز له شعبيته المتهالكة، ويقنع نواب الحزب الأزرق وأعضائه، بمنح سوناك فرصة أخيرة ليجمع شمل "المحافظين"، ويقودهم إلى الفوز في الانتخابات المقبلة. ناهيك عن أن قدرة كاميرون على التعامل مع الملفات الخارجية، قد تمنح رئيس الحكومة فرصة التفرغ لحلحلة بعض المعضلات الكبيرة في السياسة الداخلية.
ولعل ترحيل المهاجرين غير الشرعيين إلى راوندا الإفريقية، من أصعب المعضلات التي تواجه سوناك اليوم. فخطة الترحيل هذه هي أكبر إخفاقاته حتى الآن، وأوسع أبواب خصومه للنيل من شعبيته، والتشكيك في قدرته على إدارة شؤون البلاد. على الأقل بالنسبة لليمين الذي يولي هذه المسألة أهمية كبيرة في انتخابات البرلمان.
المشكلة هي أن الوقت يزيد تعقيد أزمات سوناك، والهروب يوسع قوائم خصومه ومشكلاته. فقبل عام كان القضاء يؤيد ترحيل المهاجرين إلى راوندا، وكانت أول طائرة إلى كيجالي تهم بالإقلاع من مطار هيثرو. أما اليوم فتحتاج الحكومة لصيغ قانونية جديدة كي تطرد لاجئا واحدا خارج حدود المملكة المتحدة. في الأمس أيضا كان سوناك يحارب حلفاء جونسون فقط، واليوم هو يحارب أنصاره وأنصار برافرمان.
والخوف أن يلتقي الخصوم على عدو مشترك، وأول بوادر هذه السياق ظهرت في تأييد نواب من فريق جونسون لمضمون الرسالة التي وجهتها برافرمان إلى رئيس الوزراء بعد إقالتها، واتهمته فيها بالفشل في وقف "هجرة القوارب". وقد مضت صحف محلية بالقول إن برافرمان قد أشعلت حربا أهلية بين صفوف حزب المحافظين.
إن فاقت الحرب قدرة رئيس الوزراء على احتوائها، فسيجد نفسه في ضعف لا تكفي شعبية كاميرون لانتشاله منه. حينها سيضطر إما إلى البحث أعمق في التاريخ، واستحضار أرواح ونستون تشرشل ومارجريت تاتشر. أو يقفز إلى الأمام كثيرا جدا، ويتخلى عن الحزب قبيل العد التنازلي للانتخابات البرلمانية المقبلة. وفي الحالتين، لن يذكر التاريخ سوناك كأول بريطاني من أصل أسيوي يسكن المنزل رقم ١٠، وإنما كأول زعيم للمحافظين يغرق سفينة الحزب الأزرق فقط كي يهرب من فشل قيادته.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة