السؤال عن اليوم التالي لحرب غزة، لا يبارح مساحة العقل، بداية مع اختراق حماس غلاف غزة، وتاليا مع العمليات العسكرية الإسرائيلية التي تخطت كل المحظورات.
المؤثرات العاطفية والأخلاقية والوجدانية تكاد في بعض التأملات أن تطيح بمرتكزات الرؤية العقلية الصارمة، أو تخلخل بناها أمام هول ما يحدث للفلسطينيين في هذه الجولة الدموية من الصراع.
في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي هدم مقاتلو حماس الأسوار الأمنية والتكنولوجية في غلاف غزة، الذي بنته إسرائيل اعتقادا من قادتها أن الجدران الأسمنتية المزودة بأحدث مبتكرات العلم والتكنولوجيا تعفي من أعباء الحقوق، وتطوي صفحة السلام وتكاليفها المادية والمعنوية، ويمكنها -باعتقادهم- أن تطمس التاريخ وتفصله عن الجغرافيا، وعليه يسهل شطب الحقوق من العقول والقلوب تدريجيا، وصولا إلى اندثارها.
هذه النظرية جعلت قادة تل أبيب يركنون إلى طمأنينة جوفاء سرعان ما تلاشت مع الهجوم، أحدثَ الاختراقُ هزة مجلجلة في الكيان الإسرائيلي برمته، وتجلت أصداؤها بارتدادات مختلفة الشكل والمضمون في عموم المجتمع الإسرائيلي، السياسي والعسكري والأمني.
منذ اللحظة الأولى للعملية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بزغ السؤال: ماذا بعد اليوم؟ سؤال أكدت تطورات الحرب أنه مفتوح على المجهول، كما هو حال الجواب المعلق على سؤال: ثم ماذا؟
على المقلب الإسرائيلي؛ وبعد انفلات آلة الحرب من جميع محدداتها، وبعد رمي قواعد وضوابط الحرب المعهودة خلف الظهر، وإطلاق عملية تدمير لكل شيء حيّ في غزة؛ البشر والحجر والزرع والضرع، تأخذ الأسئلة سياقات أبعد من حدود ساحات الحرب، وتتجاوز راهنية المواجهة لتطاول آفاق ما سترسمه الحرب لاحقا من مسارات بدم الفلسطينيين.
هل سأل الإسرائيليون أنفسهم هذا السؤال البسيط: لماذا يتفجر القتال مع الفلسطينيين بين فترة وأخرى منذ خمسة وسبعين عاما، من خارج الحدود أحيانا، وداخلها في أحيان كثيرة؟
أبعد من ذلك؛ هل سأل الإسرائيليون قادتهم لماذا لا يحلّ السلام مع الفلسطينيين ونتحول إلى جارين متفاهمين، بدل أن نكون أعداء لبعضنا، وتزهق الحروب أرواح الناس من كلا الطرفين بين فترة وأخرى؟
لهيب الحرب المستعرة يلفح الجميع دون استثناء، سواء المكتوين بنيرانها على أرض فلسطين، أو الذين أسَرَتْهم مخاوفهم من تجاوزها حدود فلسطين، أو أولئك الذين يخشون وصول جمرها المتناثر إلى بقاع قابلة، بل مهيأة للاشتعال.
بقدر ما أفرزته حرب غزة من مآسٍ ودمار وضحايا، فقد حركت المياه الراكدة في أروقة الدبلوماسية العالمية، ونبهت إلى استحالة تحقيق الاستقرار والسلام في المنطقة والعالم طالما بقي طرف يمارس سلطته كقوة محتلة بأدواته العسكرية فقط، وطرف آخر مغبون بحقوقه ووجوده، ولا يجد بين يديه من سبيل إلى الانعتاق والاستقلال، إلا بالرد على آلة القتل بالأدوات ذاتها.
وضعت القمة العربية الإسلامية الطارئة بشأن غزة مساراً منهجيا برؤية استراتيجية لطريق الغد الذي ينبغي أن تسلكه القضية الفلسطينية بعد عقود من الصراع، ترتكز على حقوق تاريخية وقانونية مرعية بقوانين دولية يجمع عليها العالم، ويتفق عليها لتكون منطلقا لحل دائم وعادل للقضية الفلسطينية متوجة بدولته المستقلة كما نصت عليها القرارات الأممية، ولعلها الرسالة الأكثر بلاغة لقادة إسرائيل أولا، كي لا يرتكبوا خطأ مماثلا عندما أغلقوا منافذ السلام على مر عقود طويلة مع الفلسطينيين ومع العرب، وثانيا لدول العالم من أجل ترجمة القيم التي ينادون بها بخصوص صون حقوق الشعوب بالاستقلال والحرية وتقرير المصير، خصوصاً أنهم لا ينكرون على الشعب الفلسطيني حقوقه، وبالتالي فمن شأن هذا الإقرار أن يسهم في بلورة قواسم مشتركة مع الرؤية العربية-الإسلامية التي تضمنها البيان الختامي لقمة الرياض لوضع حد لآلة القتل الإسرائيلية قبل كل شيء، وليتسنى عندها الانتقال إلى مرحلة تفعيل القوانين الدولية الناظمة للعملية السياسية وتطبيقها بمشاركة الجميع، وعندها فقط يصبح الحديث عن السلام مشروعاً.
ما من حرب إلا ولها نهايات، لكن أكثر النهايات رسوخاً وديمومة هي تلك التي تستأصل أسباب العداوة من خلال معالجتها، وتأصيل حقوق الأطراف جميعها وتثبيتها، وهي وحدها السبيل إلى السلام بعيدا عن معادلة إما قاتل وإما مقتول، وقد أثبتت التجارب بطلانها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة