إن جوهر الخلاف القائم في المنطقة إنما هو صراع بين شكلين من الدول: الدولة الوطنية، والدولة الثيوقراطية.
هناك معركة فكرية كبيرة تجري في العالم فيما يتعلق بفهم الشرق الأوسط وما جرى فيه ويحدث له وإلى أين يذهب. وجزء كبير من هذه المعركة يعود إلى المرجعية الليبرالية التي سيطرت على الغرب ومن بعده العالم منذ نهاية الحرب الباردة، حيث بات نموذجا وحيدا مهيمنا على الدنيا وما فيها ويحدد الخطوط الفاصلة بين الصواب والخطأ، والحق والباطل، وما يجب وما لا يجب فعله لكي تنبت الزهور ويطل النسيم على منطقة باتت مستعصية على سلامة السياسة، ونمو الاقتصاد، وسعادة البشر. وربما لا يسجل هذه المفاهيم قدر التقرير الذي صدر في عام ٣٠ نوفمبر ٢٠١٦ الذي صدر عن مؤسسة "المجلس الأطلنطي" تحت إشراف مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس بيل كلينتون، وستيفن هادلي مستشار الأمن القومي في إدارة جورج بوش الابن. كان المشروع قد بدأ في ١٢ إبريل ٢٠١٥ وشارك فيه العشرات من الباحثين والخبراء، وجاء موقعي في اللجنة الأمنية التي كان عليها أن توصف وتحقق في أوجاع المنطقة وتضع علاجا لها. وخلال أكثر من عام جرت الكثير من الاجتماعات، ومعها الكثير أيضا من التقارير حتى جئنا إلى المرحلة الأخيرة. لم تكن التجربة غنية أو حتى ديمقراطية حيث كان التفكير احتكارا للمدرسة المشار إليها أعلاه، وعندما صدر تقرير اللجنة الأمنية "بالأغلبية" كنت مضطرا لكتابة تقرير مواز "تقرير الأقلية" التي كانت شخصا واحدا. تكرر الأمر مرة أخرى عندما صدر التقرير النهائي، عندما أرسلت مذكرة تعليقا على الادعاءات الرئيسية التي قام عليها التقرير؛ وللأسف لم يتيسر لأي من الورقتين أن يحصلا على فرصة للنشر أو الإشارة. الآن تبدو العودة إلى الموضوع ضرورية لسببين على الأقل: أولهما أن هناك معركة سياسية وانتخابية كبرى تجري في الولايات المتحدة، وعلى قائمة أعمالها يقع ذلك الفهم المغلوط للشرق الأوسط من قبل المعسكر الديمقراطي؛ وثانيهما أنه قد مضت ست سنوات تقريبا على صدور هذا التقرير وما جاء فيه من مرجعية ندعو الله ألا تعود مرة أخرى، ولم تكن المنطقة لا ساكنة ولا هادئة أثناءها حيث جرت المواجهة بين معسكر الإصلاح وبناء الدولة الوطنية من ناحية ومعسكر الفاشية والدولة الثيولوجية من ناحية أخرى.
العجز الأول في هذه المرجعية يبدأ من تعريف الموقف في الشرق الأوسط، آنذاك وربما الآن أيضا، بأن "الاحتقان السياسي، وليس الدين، هو أهم المحركات للصراع في المنطقة. السردية الدينية هي التي تقوي العنف وتجعله مستداما بينما هو موجود بالفعل". إدخال الدين والسردية الدينية في الموضوع خاطئ من زاويتين: أولهما أن الأمر في الإقليم ليس الدين وإنما الأيديولوجية؛ وثانيهما أن السردية هي في حقيقتها سياسية أنتجتها حركات أيديولوجية برزت منذ عام ١٩٢٨ عندما أُسْسِت حركة الإخوان المسلمين التي وتوابعها من منتجات مدرسة "الخوارج" في التفكير السياسي في تاريخ الدول الإسلامية. وثانيهما أن أيا من هذه الحركات ليست لديها احتقان سياسي مع نظم الحكم، وإنما يستهدفون أساسا إقامة دولة ثيوقراطية تختلف جذريا عن الدولة القائمة. نماذج هذه الدولة جرى إقامتها في إيران تحت ولاية الفقيه وأفغانستان تحت حكم الطالبان والسودان تحت حكم الإخوان ونطاق سيطرة تنظيم داعش سابقا. إن جوهر الخلاف القائم في المنطقة إنما هو صراع بين شكلين من الدول: الدولة الوطنية، والدولة الثيوقراطية.
العجز الثاني في هذه المرجعية يأتي من توالي الحديث عن الصراع الشيعي السني وترجمته إلى الصراعات القائمة في المنطقة. ولكن الانقسام الشيعي السني هو جزء من النسيج التاريخي للمنطقة، وما جعله حاضرا ودمويا ماسمي بالثورة الإيرانية التي تحاول فرض قيادتها على العالم الإسلامي، وبزوغ الحركات الراديكالية الأيديولوجية والسابق الإشارة إليها.
العجز الثالث في المرجعية أنها لا تدعي إدانة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية باعتبارها سببا للعنف في المنطقة، داخل وبين الدول، فضلا عن سوء توزيع الثروة، لا يوجد ما يؤيده في الدراسات التجريبية اللصيقة بالواقع الشرق أوسطي. وطبقا لما جاء في سنوات متعددة من "مقياس الإرهاب العالمي أو “Global Terrorism Index فإن أيا من هذه العوامل ليست هي المؤثرة في دوافع العنف والإرهاب، وإنما الأيديولوجية الدينية هي الأكثر تأثيرا. وعند المقارنة مع أقاليم العالم الأخرى، فإن الإحصائيات تشير أن المنطقة ليست أكثر فقرا من أقاليم أخرى في العالم إلا عندما يتم استبعاد النفط من ثروة المنطقة دونما استبعاد الثروات الطبيعية من ثروات الدول الأخرى! وبالنسبة لتوزيع الثروة فإن الشرق الأوسط ليس أسوأ حالا طبقا للمعايير الاقتصادية المتعارف عليها في مقياس "جيني"، فإن الإقليم ليس أفضل حالا من الصين وتركيا والهند والبرازيل، والولايات المتحدة الأمريكية.
العجز الرابع حيث تبدأ التوصيات بالحديث عن آليات إقليمية للتعامل مع التهديدات الأمنية وتشجيع التعاون الإقليمي التي ربما لن يختلف عليها أحد. ولكن مثل هذه الدعوات لا تكفي دون النظرة الفاحصة للتنظيمات الإقليمية الحالية مثل مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والعمل على إصلاحها وزيادة قدرتها على العمل من ناحية، ولكن من ناحية أخرى وهي الأهم فهي إصلاح توازن القوى في المنطقة إلي صالح الدول الساعية للسلام والتعاون الإقليمي والتنمية الإقليمية، والوقوف في وجه الأيدولوجيات الدينية الراديكالية والتحديث والإصلاح في الداخل. إن صعود الاتحاد الأوروبي في الماضي لم يكن ليحدث لو أن "الفاشية" و"النازية" لا تزال مستمرة في أوروبا.
العجز الخامس الذي جاء في التقرير ولا يزال يتردد في أصداء المقالات والتقارير الصادرة في مؤسسات غربية عديدة هو المتعلق بالمبادئ الأساسية التي يقوم عليها التعاون الإقليمي. فليس كافيا الاستناد إلى المبادئ المعروفة في ميثاق الأمم المتحدة؛ ولا ينبغي أن تكون هذه المبادئ فاتحة لأبواب جهنم بإعطاء الشرعية للانفصال وتدمير الدول بمبدأ تغييرات الحدود "بالطرق السلمية" كما زعم التقرير المذكور. صحيح أن الأقليات ينبغي حمايتها، ولا بأس من إعطائها الفرصة للازدهار والحماية من خلال درجات من اللامركزية، ولكن ذلك لا يعني الوصول إلى ما تريده مؤسسات غربية بأن يكون لها حق الفيتو على بناء الدولة الوطنية.
العجز السادس في الفكر الغربي الليبرالي أنه يحاول التأسيس لمبدأين متناقضين: من ناحية يؤسس لمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدولة في المنطقة، ومن ناحية أخرى يضع أسبابا للتدخل في أمور تقلبها رأسا على عقب. هذا النوع من التدخل يمكن وصفه بالإصلاح "العدائي" وليس ذلك الإصلاح "الصديق" الجاري في المنطقة والذي تسير فيه الإمارات ومصر والسعودية والقائم على تجديد الفكر والإصلاح المدني وبناء الدولة الوطنية. كل ذلك للأسف لا يجري تسجيله اللهم إلا في وثائق المنظمات الدولية التي لا تجد لنفسها أثرا في تقارير مراكز البحوث والتفكير. المدهش أكثر أن معظم ما يقال يقتصر دائما على الدول العربية، بينما يجري تجاهل الدول الشرق أوسطية الأخرى مثل تركيا وإيران والتي لها سجلات فاضحة في التعامل مع الأقليات واستخدام العنف وحماية الإرهاب وتشجيعه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة