إن ما يعيشه العراقيون اليوم هو واقع أليم بكل المقاييس، فهم بين فكرتين متناقضتين ومتصارعتين أبطالها: أمريكا وإيران.
ينظر الشارع العراقي إلى أمريكا باعتبارها صانعة تاريخه الحديث، وخاصة الأجيال التي لم تعرف الكراهية التي نماها النظام السابق وغذاها بكل طاقته سعيًا لتكريس سياساته. لذلك اختلطت هذه الأفكار بالأساطير التي كونها العقل الجمعي العراقي عن أعظم قوة في العالم، إلا أن العراقيين لم يكتشفوا الأمريكيين إلا عندما احتلوا بلادهم عام 2003. فتحولت الأسطورة إلى واقع عاشه العراقيون بكل تفاصيله. ولكن سرعان ما تبددت آمال العراقيين بالأمريكيين بعدما كانوا يتصورون أنهم سيجعلون من بلدهم منارة للتقدم والازدهار والتكنولوجيا. ومما زاد هذه الخيبة دخول إيران على الخط، وذلك بإرسال أذرعها العنكبوتية إلى العراق.
إن ما يعيشه العراقيون اليوم هو واقع أليم بكل المقاييس، فهم بين فكرتين متناقضتين ومتصارعتين أبطالها: أمريكا وإيران. وهذا الصراع الذي كان خفيًا ظهر للعلن بعدما جاهرت به المليشيات التابعة لإيران، حتى صارت تقصف السفارة الأمريكية بصواريخ الكاتيوشا مما دفع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى التفكير بغلق سفارة بلده في العراق، وهي أضخم سفارة لأمريكا في العالم.
الحكايات لا تنتهي عن الأمريكيين وذكريات الاحتلال لا تزال عالقة في أذهان الناس، فهم يتذكرون سجن بوكا الذي شيدته أمريكا من "الكرفانات" في صحراء الفاو وألقت فيه نحو 25 ألف سجين عراقي معظمهم أبرياء طيلة سبع سنوات ثم أغلقته وكأن شيئًا لم يكن، لكن الذاكرة لا تنسى.
مع هذه الخلفية، ومع ظهور جيل فتح عيونه على مشاهدة الأمريكيين يتجولون بدباباتهم في شوارع بغداد، حتى صار الوجود الأمريكي شأنًا عراقيًا لا جدال فيه. وفي هذه الأيام، وفي فترة السباق الرئاسي الأمريكي، عاد العراقيون إلى التفكير في الانتخابات الأمريكية مجددًا. وهم يتأملون التغيير الذي قد يغيّر مجرى حياتهم، خاصة أن غالبية الناس تعتقد أن رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي يسعى إلى تحجيم الوجود الإيراني وإضعافه على أرض العراق، حتى اتهمه البعض بأنه رجل أمريكا في العراق.
وهناك من يتذكر، وخاصة من الجيل المخضرم، أن الأمم المتحدة في وقت مضى اعتبرت العراق أول بلد علماني في المنطقة، ورغم ذلك سلمت زمام الحكم إلى نظام الحوزة، ضاربة بعرض الحائط جميع القوة المستنيرة والعلمانية التي يزخر بها العراق، وخاصة طبقته البرجوازية الساعية لبناء نظام سياسي مدني. هذه التشابكات خلقت شرخًا حادًا في وعي العراقيين. لذلك يراقب العراقيون في المقاهي والبيوت شاشات التلفاز وهي تنقل المناظرة بين الرئيس الأمريكي ترامب والمرشح الديمقراطي جون بايدن للانتخابات المقبلة، وانقسموا بين مؤيد لهذا أو معارض لذاك إلا أنهم لا ينسون سمعة بايدن السيئة في مناصرة تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات على أسس عرقية وطائفية "مناطق كردية وسنية وشيعية" عندما كان نائبًا للرئيس الأسبق باراك أوباما. وكثير من العراقيين يعتبر ترامب هو مخلصهم من الهيمنة الإيرانية، فيما يدرك البعض الآخر حقيقة تحويل العراق إلى ساحة مواجهات بين أمريكا وإيران. وقد استغلت وسائل التواصل الاجتماعي مرض الرئيس الأمريكي بكورونا للتعليق ومناقشة مستقبل العراق، رغم أزمة الرواتب والانتخابات المبكرة والنزاهة وقضايا الفساد التي تعصف بالمجتمع العراقي.
على أي حال، فإن الانقسام الواضح هو بين المؤيدين لأمريكا والمؤيدين لإيران، وهم يعلقون آمالهم الكبيرة على نتائج الانتخابات الأمريكية المقبلة، البعض ممن يؤيدون الجانب الإيراني يعتقدون أن خسارة ترامب سوف تدفع إلى تخفيف الضغط عن إيران، لأن الديمقراطيين يؤيدون الاتفاق النووي الذي ألغاه ترامب. بينما يأمل المعارضون للوجود الإيراني في العراق بفوز الرئيس الأمريكي بولاية ثانية من أجل إضعاف إيران وبالتالي المليشيات التي تتحكم في العراق.
تبقى أمريكا هي بوصلة السياسة العراقية التي تؤدي إلى ظهور مواقف سياسية جديدة إلى العلن. لذلك فإن العراقيين الآن بين كفتي ترامب وبايدن، إلا هذه الحالة لا تعدو كونها مجرد حالة مزاجية لا أكثر لأنه مهما كانت نتائج الانتخابات الأمريكية، تبقى السياسة تعتمد على المؤسسات التي لا تتأثر بالأهواء السياسية، وهذا ما يدركه قلة من العراقيين ليس إلا.
هكذا تتلاعب الانتخابات الأمريكية بأمزجة العراقيين على بعد آلاف الكيلومترات، وهم يتخوفون من مجيء المرشح الديمقراطي إلى الحكم ويعتبرونه سببًا في إثارة المشاكل من جديد، لأنه باعتقادهم سيعمل على تقوية إيران وجعلها تتسيد على الشأن العراقي أكثر من الوقت الحالي. في وقت ينقسم العراقيون أنفسهم بين شيعة وسنة وأكراد ومذاهب وطوائف لا يجمع بينهم جامع وطني كما كان في السابق، منذ أن جاء السياسيون الحاليون بقانون المكونات وأدرجوه في الدستور العراقي. وهذه معضلة لا يمكن لأمريكا نفسها حلها لأنه في حقيقة الواقع لا يمكن فصل هذه المكونات المتداخلة ببعضها.
كثيرٌ من العراقيين يتمنون نجاة ترامب من كورونا ليساعدهم على إضعاف إيران، وتمكينهم من التغلب على المليشيات الموالية لها والتي تتحكم بمصائرهم. لكن كل شيء موقت في السياسة، ولربما تتغير المعايير بين عشية وضحاها بانسحاب كل من ترامب والكاظمي من الساحة السياسية.
البعض يركز على دور المليشيات الموالية لإيران لإجبار الأمريكيين على الخروج من العراق. وهذا مجرد احتمال يفكر به العراقيون وهم لا يدركون أن حل مشكلاتهم يكمن بسياسة الانفتاح على المحيط العربي والخليجي الذي من شأنه أن يخرج العراق من عزلته، شريطة أن يتبع سياسة علمانية بعيدة عن الطائفية والمليشيات والفساد. هذه مفاتيح الحل الذي لا تستطع أن تقوم به أمريكا أو أي قوة من الخارج، لأنها مهمة العراقيين الوحيدة، في وقت لا تخضع فيه السياسية الأمريكية إلى الأهواء الشخصية بقدر ما تعتمد على المؤسسات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة