الموت المدفون.. ذخائر غير منفجرة تلغم شوارع الخرطوم

في قلب العاصمة السودانية الخرطوم، يواجه العائدون إلى منازلهم واقعًا مريرًا، رغم هدوء المدافع وتراجع الاشتباكات في بعض الأحياء.
فالمدينة، التي أُنهكتها الحرب لأكثر من عامين، لا تزال ساحة موت مؤجلة، فبين الركام، وتحت أنقاض المدارس والمنازل، تختبئ ذخائر غير منفجرة تهدد حياة العائدين بصمت قاتل لا يُرى، لكنه حاضر في كل خطوة.
عبدالعزيز علي، الموظف الإداري المتقاعد، عاد إلى مدرسته السابقة في حي العمارات ليجدها مليئة بالركام والذكريات.. وقذيفة غير منفجرة تختبئ تحت كومة قماش.
يقول بصوت مرتجف: «كيف لا أخاف؟ هذه مدرسة أطفال! القذيفة طولها يمكن 40 سنتيمترا، شكلها مضاد للدروع». هذه ليست مجرد كلمات عابرة، بل تعبير حاد عن شعور متزايد بالخطر بين المدنيين.
شوارع محفوفة بالخطر
في مختلف أنحاء الخرطوم، تتناثر الذخائر في الشوارع والمباني والمؤسسات، وعلى الرغم من الجهود الحثيثة التي تبذلها فرق التطهير المحلية وفرق الأمم المتحدة، فإن الموارد لا تزال محدودة بشكل حاد.
يقول المسؤولون إنهم بحاجة ماسة إلى تعزيز عدد الموظفين والتمويل، خاصة بعد خفض الدعم الأمريكي الذي دفع برنامج الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام إلى حافة التوقف في مارس/آذار الماضي، قبل أن تتدخل كندا جزئيًا لإنقاذه.
وفي الشوارع، يصادف العائدون مشاهد مفزعة: قذائف على الأرصفة، صواريخ داخل سيارات محطمة، وطائرات مسيرة مهجورة داخل الأقبية.
ويحذر السكان من أن انفجارًا واحدًا كفيل بتدمير مبانٍ كاملة، أو إنهاء حياة عائلة بأكملها.
ضحايا بلا صوت
بحسب المركز القومي لمكافحة الألغام، تم تدمير أكثر من 12 ألف جسم متفجر منذ اندلاع الحرب في أبريل/نيسان 2023، فيما تم اكتشاف نحو خمسة آلاف جسم جديد بعد استعادة السيطرة على مناطق إضافية.
وفي الأحياء السكنية، حيث لا تصل الفرق المتخصصة، يعتمد السكان على مجموعات تطوعية تعمل في ظروف بالغة الخطورة.
حلو عبد الله، قائد إحدى هذه الفرق في أمبدة، يقول: «بيجينا يوميًا ما بين 10 إلى 15 بلاغًا، وبنحاول نلحق اللي نقدر عليه».
مآسٍ صامتة
وراء الأرقام، تختبئ قصص مروعة لمدنيين دفعوا ثمن هذا الخطر الصامت. في جزيرة توتي، فقد فتى يبلغ من العمر 16 عامًا ذراعه اليسرى وأصيب بجراح بالغة بعد انفجار قذيفة كانت داخل كرسي في منزله.
يروي عمه: «كنا ننظف البيت يوم السبت، فجأة حصل انفجار. بدون مقدمات، كانت الطلقة موجودة في الكرسي».
وفي ظل غياب عمليات مسح شاملة، تبقى أحياء بكاملها عرضة لخطر مجهول، لا يُرى بالعين المجردة، ولا يُكتشف إلا بعد أن يفوت الأوان.
نداء عاجل للعالم
رئيس برنامج الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام في السودان، صديق راشد، يقول إن الحاجة ماسة إلى مئات الفرق، بينما ما يتوفر حاليًا لا يكاد يفي بحدود الضرورة.
ويضيف أن صعوبات في الحصول على تصاريح السفر تعرقل حركة الفرق، وأن عمليات المسح حتى الآن اقتصرت على السطح فقط، دون التوغل في عمق المناطق المتضررة.
«الأمر مقلق للغاية».. يقول راشد، محذرًا من أن العائلات العائدة تُترك عمليًا لحماية نفسها بنفسها، في بيئة ما زالت تفوح منها رائحة الحرب والخطر.