بعد أن تغول التطرف وتحول إلى ظاهرة عالمية محسوبة على الإسلام كديانة وعلى المسلمين كمجتمعات، أصبحت هموم التجديد الديني ومراجعة الموروث واحدة من القضايا البارزة التي تقع في مقدمة المعالجات المقترحة لمواجهة التطرف والغلو الذي ينتج الإرهاب. غير أن تجديد الخطا
بعد أن تغول التطرف وتحول إلى ظاهرة عالمية محسوبة على الإسلام كديانة وعلى المسلمين كمجتمعات، أصبحت هموم التجديد الديني ومراجعة الموروث واحدة من القضايا البارزة التي تقع في مقدمة المعالجات المقترحة لمواجهة التطرف والغلو الذي ينتج الإرهاب. غير أن تجديد الخطاب الديني بقي يراوح مكانه بين التنظير على استحياء، وبين التردد في مكاشفة الذات وعدم البدء بخطوات عملية لقطع الطريق أمام المتطرفين، الذين بدورهم يعتمدون اعتماداً كلياً في الشرعنة للعنف والإرهاب على المخزون التراثي للإسلام، وعلى ما تراكم من كتب ومؤلفات تراثية خلال القرون الماضية.
ولا شك أن المواجهة الفكرية الناضجة مع المتطرفين تبدأ بتفكيك مرجعياتهم وانتقاءاتهم المبتسرة التي يجتزئونها من سياق الموروث لإرضاء نزواتهم وميولهم العنفية. ومن هنا تأتي أهمية تنقية كتب التراث ومراجعة محتواها من قبل مختصين يضعون سماحة الدين في عين الاعتبار أثناء عملية التنقيح المستحقة. وتحتوي المكتبة العربية على مخزون هائل من كتب التراث الفقهي والشروح والتفاسير والرسائل، التي تندرج ضمن الموروث الإسلامي الغني بصنوف المؤلفات المتعددة الأغراض والمضامين. ولهذا الكم الكبير من الموروث ظروفه وخلفياته المرتبطة بزمن التأليف وحدود الاجتهاد ودواعيه، والتي لم تكن تخلُ من الملابسات والخلافات المذهبية والتنافس على إظهار التشدد والتطابق مع المنطق السائد لكل عصر.
وعندما ننظر إلى كتب التراث الإسلامي في وقتنا الراهن، نجد أن المتطرفين يحرصون على تلقيها بأسلوب التماهي مع كل ما يؤيد ويعزز تطرفهم، وينقبون فيها بتلهف عن الفقرات التي تبيح لهم القتل والسحل وإرهاب الآمنين. الأمر الذي يجعل من تنقيح كتب التراث ضرورة ملحة تأخرت كثيراً. ولا شك أن مراجعة وتنقيح التراث الإسلامي الذي وضعه بشر مثلنا لا يزال من القضايا المسكوت عنها والمؤجلة حتى الآن، رغم استغلال المتطرفين لما بين سطور المؤلفات العتيقة للتبرير لصنوف الإرهاب المعاصر وتسويغ جرائمه.
ومن الغرائب أن دور النشر المتخصصة بطباعة وتوزيع مختلف الكتب التراثية، لا تزال ترفد معارض الكتاب العربية بنسخ من مؤلفات القرون الماضية بصيغتها القديمة، دون أي مراجعة أو تحقيق لتنقيتها من كل ما يثير الكراهية ويحرض على العنف. وإذا كان الحرص على حماية الأخلاق دافعاً للتنقيح الذي يجده القارئ في كتاب «ألف ليلة وليلة»، بعد أن حذف الناشرون من طبعاته الحديثة الكثير من الفقرات التي تحمل إيحاءات جنسية، فلماذا لا يكون الحرص على وقاية القارئ من التشدد والغلو دافعاً لتنقيح المؤلفات التراثية التي تتضمن ما لا يستقيم مع التعايش والتسامح والتداخل الاجتماعي ونمط الحياة الاقتصادية المعاصرة، بما في ذلك انفتاح العالم على حركة الهجرة والتوطين الذي جعل من الجاليات الإسلامية في الغرب تصل إلى نسبة كبيرة من السكان.
كما أن كتب التراث الإسلامي التي وضعها فقهاء في أزمنة متفرقة بحاجة للنظر إليها بوصفها اجتهادات بشرية، وأنها قابلة للدراسة والتفنيد والمراجعة. ولا يعقل أن يتم تجاهل تأثيرها الخطير، وقيام الإرهابيين باستغلالها واتخاذها مرجعيات مثالية لأسلوب تفكيرهم الوحشي. بدليل أن مؤلفات ومنشورات منظري «القاعدة» و«داعش» اعتمدت على الاجتزاء من كتب التراث، وقامت بإعادة إحياء واستنساخ مواقف أصبحت في حكم الغرائب التي يستهجنها العقل الإنساني، مثل نظرية «التترس» عند ابن تيمية وجواز قتل الأبرياء، وغيرها من الأحكام والفتاوى التي أثارت الشعور بالتندر والاستغراب نظراً لمجافاتها لمنطق الإسلام وسماحته وأخلاقياته.
إن الاستمرار في تقديس ما لا يحتمل التقديس يبرر للمتشددين الاستمرار في الاعتماد على الصفحات الصفراء من كتب التراث واعتبارها بمثابة الحافز المعنوي والمبرر النظري لإقناع أتباعهم، وذلك يعني استمرار الإرهاب وجرائمه.
وهناك من يظن أن الأعمال الإرهابية تستهدف الدول الغربية فقط، ويتناسى أن حصيلة جرائم الإرهاب في الدول العربية والإسلامية تفوق بكثير نتائج الحوادث التي وقعت في الغرب. ويكفي أن نتذكر أعداد ضحايا التفجيرات الإرهابية في العراق وحدها لنستشعر خطورة هذه الآفة. لذلك يتوجب على المختصين القيام بتنقيح كتب التراث، على أن تكون الأولوية القصوى في هذا المضمار للكتب التي تدرس ضمن المناهج المعتمدة في المدارس والمعاهد والجامعات العربية.
نقلا عن صحيفة الاتحاد
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة