سحب القوات الأمريكية من أوروبا.. «ضرورة استراتيجية» لا تقبل التأجيل

لعقود، كان الدفاع الذاتي الجماعي الأوروبي مجرد خطة طموحة لكن اليوم، حان الوقت لتحقيقها.
فبعد حرب أوكرانيا، بدأت الدول الأوروبية اتخاذ إجراءات جادة لتعزيز قدراتها الدفاعية، وتسارعت هذه الجهود مع عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، حيث تعهّد القادة الأوروبيون بزيادة كبيرة في الإنفاق العسكري.
يكمن الخطر اليوم في أن تفقد أوروبا زخمها، خاصة إذا تأخرت الولايات المتحدة في سحب قواتها من القارة. لكن كلا الجانبين لديه أسباب وجيهة لبناء دفاع أوروبي مستقل: فمن جهة، ستتمكن واشنطن من تحرير قواتها لمهام أخرى أو تقليص حجمها، ومن جهة أخرى، ستصبح أوروبا الشريك الدفاعي الذي تحتاجه وتريده أمريكا، وذلك وفقًا لما ذكرته مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية.
لذا يجب على إدارة ترامب أن تبدأ بسحب أعداد كبيرة من القوات الأمريكية من أوروبا، ونقل عبء الدفاع التقليدي إلى القارة الأوروبية نفسها. فالتردد في ذلك سيقوض جهود بناء دفاع أوروبي فعّال، ويُبقي البنية الأمنية للقارة هشّة لسنوات.
ولتشجيع الأوروبيين على الوفاء بوعودهم، ينبغي على واشنطن وضع خطة واقعية، واضحة الأهداف، ومحددة المراحل، لتقليص وجودها العسكري إلى النصف في أوروبا خلال السنوات الأربع المقبلة، مع الحفاظ على القوات الحيوية للمصالح الأمريكية.
أفضل فرصة لأوروبا لتحمّل نصيب أكبر من عبء الدفاع هي الآن، قبل أن تتلاشى الإرادة السياسية أو تُضطر الولايات المتحدة إلى انسحاب مفاجئ في المستقبل. ومع تراجع قدرتها على الحفاظ على تفوقها العسكري العالمي منذ نهاية الحرب الباردة، يجب على واشنطن تقليص وجودها في بعض المناطق، خاصة وأن جزءًا كبيرًا من قواتها في أوروبا لم يعد مبررًا في ضوء مستوى التهديد الحالي.
صحيح أن البعض يرى أن بقاء القوات الأمريكية في أوروبا يردع روسيا، لكن الواقع أن موسكو غارقة في حرب أوكرانيا، ولا تملك حاليًا القدرة على فتح جبهة تقليدية ضد أوروبا الغربية. وبالتالي، فإن نقل مسؤوليات الدفاع تدريجيًا لدول القارة سيسد أي ثغرات أمنية مستقبلية.
رغم ذلك، هناك قوات أمريكية لا غنى عنها لأمن الأطلسي، مثل الوحدات المسؤولة عن حماية الساحل الشرقي الأمريكي من تهديدات بحرية عبر شمال الأطلسي، وخاصة عبر فجوات المحيط بين غرينلاند وآيسلندا والمملكة المتحدة، إضافةً إلى أنظمة جمع المعلومات الاستخباراتية المتطورة مثل "ريفت جوينت"، و"غلوبال هوك"، وطائرات الاستطلاع "بي-8"، التي توفر بيانات استراتيجية لا تملكها الجيوش الأوروبية.
لذلك، لا ينبغي للولايات المتحدة سحب جميع قواتها، ولا أن تتم العملية بشكل متسرع أو غير مدروس. بل يجب أن تُدار على مراحل، مع مراعاة جاهزية البيروقراطيات الأوروبية، وقدرات الصناعات الدفاعية، والموارد المالية.
ينبغي أن يتركز الانسحاب على القوات البرية، بدرجة أقل على الجوية، مع الإبقاء على العناصر البحرية والتكنولوجية الأساسية. وتتمثل المرحلة الأولى في سحب القوات التي أُرسلت بعد حرب أوكرانيا عام 2022، بحلول نهاية عام 2026.
سيضمن هذا الانسحاب المتواضع الحفاظ على الزخم الأوروبي لبناء دفاع تقليدي قوي. كما ينبغي أن تحدد واشنطن موعدًا نهائيًا للمرحلة الثانية من الانسحاب بحلول مطلع عام 2029، بحيث تخفّض القوات التقليدية إلى نصف مستواها الحالي، مع إعادة توازنها لصالح القوات البحرية والجوية.
كذلك، سيكون من الضروري مناقشة تعيين قائد أوروبي أعلى لقوات الناتو في أوروبا، وهو منصب طالما شغله قائد أمريكي. منح هذه المسؤولية لقائد أوروبي سيسرّع من الانتقال إلى قيادة أمنية أوروبية مستقلة.
في النهاية، ستحتفظ الولايات المتحدة ببعض الوحدات الحيوية، مثل لواءين عسكريين، وقوات دعم، وقوات فضائية، ومنظومات دفاع صاروخي، إلى جانب القيادة والسيطرة، والقوات الخاصة، والعناصر التي لا يمكن استبدالها بسهولة في المدى القريب.
وقد تسعى واشنطن إلى تخفيضات إضافية في ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين، أو إعادة تموضع بعض القوات إذا استدعت الظروف الأمنية المتغيرة ذلك.
صحيح أن أحد المخاطر المحتملة هو عدم قدرة بعض الدول الأوروبية على سد الفجوات الأمنية، لكن هذا الاحتمال يظل ضئيلًا، فدول الاتحاد الأوروبي مجتمعة تمتلك أكثر من 1.3 مليون جندي، وهو رقم يقارب عدد الجنود الأمريكيين ويتفوق على روسيا التي تمتلك قرابة 1.1 مليون جندي.
بالتالي، فإن إدارة الانسحاب بحكمة ودقة سيعيد صياغة الشراكة عبر الأطلسي على أساس أكثر توازنًا.
كما أن توضيح واشنطن لخططها سيدفع الدول الأوروبية إلى اتخاذ خطوات حاسمة لبناء دفاع ذاتي فعّال، وستظل خلال السنوات المقبلة بحاجة إلى بعض المعدات من الولايات المتحدة، لكنها ستكون قد وضعت الأساس لأمن أوروبي مستقل فعلاً.
aXA6IDIxNi43My4yMTcuNSA=
جزيرة ام اند امز