بعد الحرب الأوكرانية.. ملامح الاستراتيجية الأمريكية الكبرى للمستقبل
بعد نصف عام من الحرب الروسية الأوكرانية، أخذ حديث المحللين الأمريكيين يتزايد عن الاستراتيجية الأمريكية الكبرى المنتظرة في المستقبل.
استراتيجية تحدثت عنها مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية مع مفكرين بارزين، خاصة بعد أول حرب كبرى في أوروبا منذ 1945 ستلعب دورا كبيرا في الاستراتيجية الكبرى لواشنطن.
ورغم تباين المحللين الأمريكيين حول تلك الاستراتيجية، إلا أنهم اتفقوا على أمر واحد يتبنى أن الحرب الروسية الأوكرانية تمثل نهاية حقبة ما بعد الحرب الباردة وعودة المنافسة القوية بين القوى العظمى في أوروبا والمحيط الهادئ.
سؤال أعادت المجلة الأمريكية طرحه مجددا، لكنها رصدت عدة مفاجأت، حيث تماسك الغرب الليبرالي بشكل مذهل، وإعادة تنشيط حلف شمال الأطلسي (الناتو) بانضمام عضوين جديدين، واكتشاف الاتحاد الأوروبي دور جديد بشن حرب اقتصادية.
وبات واضحا تجاوز دروس الصراع إلى ما هو أبعد من أوروبا، مما يؤثر على المنافسة الاستراتيجية مع الصين، وفقا لمجلة فورين بوليسي.
الحرب الروسية الأوكرانية تشير أيضًا إلى بعض المشاكل للخبراء الاستراتيجيين في واشنطن، لعل أولها وقبل كل شيء أن معظم الدول غير الغربية رفضت الانحياز إلى جانب واحد.
كما أدى الصراع إلى تسريع العملية المؤلمة لفك الارتباط بين القوى العظمى – لاسيما في التكنولوجيا – وسط احتمالات عن دق المسمار الأخير في نعش العولمة غير المقيدة والأسواق المفتوحة، وهي الدعائم الأساسية في نظام ما بعد الحرب الباردة.
حارس أوروبا
التحليل الذي نشرته "فورين بوليسي" أكد أن الحرب الروسية على أوكرانيا أنهت المرحلة الأولى لحقبة ما بعد الحرب الباردة، وبدا جليا دور واشنطن القيادي الذي لا غنى عنه كضامن لأمن أوروبا.
وعبر بوابة الحرب الروسية الأوكرانية أيضا، أعادت واشنطن إلى حلفائها بالناتو حقيقة أنهم يمكنهم حماية أنفسهم فقط تحت المظلة الأمريكية.
ووفقا لتحليل المجلة فإن الاتحاد الأوروبي، رغم كل خططه وطموحاته، فشل في تحقيق استقلاله الاستراتيجي، كما فشلت مؤسسات أخرى – الأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا – في الرد بشكل مناسب على الحرب والتهديد الأمني الذي تشكله موسكو على أوروبا.
وفي حين قدمت الولايات المتحدة نصيب الأسد من الأسلحة المقدمة لأوكرانيا ومكنتها من صد التقدم الروسي، يدعم أعضاء آخرون في الناتو أوكرانيا بالأسلحة والتدريب والمعلومات الاستخباراتية.
ولفت التحليل إلى أنه بعد خروج الناتو العصيب من أفغانستان، في أغسطس/آب 2021، أعاد التكتل اكتشاف مهمته الأصلية وهي "احتواء روسيا التوسعية"، والأمر الوحيد المختلف هذه المرة هو أن الحلف سينسق عن كثب أكثر مع الشركاء الآسيويين بعد تصنيف التكتل للصين كخصم.
وستقود الولايات المتحدة، من خلال الحوار الأمني الرباعي، وشراكة أوكوس، والتحالفات الثنائية في آسيا، الغرب الجماعي – أمريكا الشمالية وأوروبا وأستراليا ونيوزيلندا واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة – في السعي نحو احتواء كل من روسيا والصين في وقت واحد.
دول محايدة
ومع ذلك، سيصبح من الصعب على نحو متزايد الحفاظ على الوحدة الغربية في مواجهة المصاعب المتزايدة الناجمة عن التداعيات الاقتصادية للحرب، بما في ذلك العقوبات الغربية، واستخدام روسيا لإمدادات الطاقة والغذاء كسلاح.
وسيتعين على الولايات المتحدة قيادة عملية مساعدة حلفائها في إيجاد بدائل للنفط والغاز الروسي في نفس الوقت الذي تواصل فيه أجندتها الداخلية للتخلص تدريجيا من الوقود الأحفوري.
كما سيتعين على الولايات المتحدة مواجهة واقع جديد؛ ففي حين أدان الغرب الجماعي وعاقب روسيا ودعم أوكرانيا، رفض الجنوب العالمي كاملا تقريبا الانحياز إلى أحد الأطراف.
وسيتوجب على الولايات المتحدة الخوض في غمار هذه المجموعة الكبيرة من الدول التي لم تختر جانبا، كما فعلت خلال الحرب الباردة: من خلال السعي إلى إقناعهم بأن الحرب الروسية، بانتهاكها ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، تمثل تهديدا على سيادة الدول الأخرى وسلامة أراضيهم كذلك.
كما أشار التحليل بـ"فورين بوليسي" إلى أن الحرب أظهرت أن القوة الخشنة لا تزال مهمة في القرن الحادي والعشرين، وكشفت أوجه القصور العسكرية الأوروبية، وأبرزت حدود الالتزام الأمريكية، وكشفت الإمكانات العسكرية الروسية.
ويسستغرق إعادة بناء دفاعات أوروبا وقتا وأموالا، لكن سيمكن حمل أوروبا من الاضطلاع بمسؤولية أكبر في الدفاع عن نفسها الولايات المتحدة من تحويل مزيد من الجهد والانتباه إلى آسيا لمواجهة التحديات المتعددة التي تشكلها الصين.
الانتفاع المجاني
ورأى تحليل فورين بوليسي أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن ربما تكرر الآن نفس الأخطاء التي شجعت شركاء واشنطن الأوروبيين على تجاهل قدراتهم الدفاعية الخاصة في الماضي؛ فقد تحملت الولايات المتحدة المسؤولية عن تسليح أوكرانيا وتدريبها ودعمها وتقديم المشورة إليها.
وفي فبراير/شباط الماضي، أعلنت إدارة بايدن عن نشر 20 ألف جندي أمريكي إضافي في أوروبا، مع إضافة قوات جديدة أخرى في يونيو/حزيران المنصرم. ومما لا يثير الدهشة، بدأ العزم الأوروبي لفعل المزيد في التلاشي، وظهرت عادات "الانتفاع المجاني" مجددا.
ولن يؤدي الركود الأوروبي الوشيك سوى إلى مفاقمة هذه الاتجاهات، مما يلقي بظلال الشك على التعهدات الجريئة التي قطعتها ألمانيا ودول أوروبية أخرى منذ شهور قليلة.
وإذا لم يتغير هذا الاتجاه، ستجد واشنطن نفسها تفعل أكثر من المطلوب في أوروبا وأقل مما يكفي في آسيا. وبالنسبة للاستراتيجية الكبرى الأمريكية، سيكون هذا خطأ جوهريا.
ولفت التحليل إلى أن تمكين الأصدقاء والحلفاء في أوروبا وآسيا للاضطلاع بمسؤولية أكبر عن تأمين مناطقهم كان نقطة رئيسية بسياسية بايدن. وفي أوروبا، لم يعرف بعد ما إذا كان جميع حلفاء الولايات المتحدة – خاصة ألمانيا وفرنسا – ملتزمين حقا بترجمة التزاماتهم إلى أفعال.
وفي آسيا، يبدو أن حلفاء وشركاء أمريكا مثل اليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، والهند، مستعدين للاضطلاع بدور أكبر في أمنهم الخاص وموازنة القوى بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وليس من المفاجئ وجود انقسامات عميقة في كل من أوروبا وآسيا حول كيفية التعامل مع روسيا والصين. وسيظل منع موسكو وبكين من استغلال هذه الانقسامات تحديا سياسيا كبيرا للولايات المتحدة بينما تحاول تحقيق الاستقرار في المنطقتين.
aXA6IDE4LjIyNS4xOTUuNCA= جزيرة ام اند امز