أمريكا في النيجر.. فشل «الخطة الناعمة» و«مكافأة نهاية الخدمة»
وكأنه كان أمام أمريكا خيار الرفض لتعلن «موافقتها» على سحب قواتها من النيجر، وهي التي تدرك أن العسكر من رفعوا بوجهها «كارت أحمر».
بعثرت خيارات المجلس العسكري الحاكم في النيجر «خطة ناعمة» حاولت واشنطن جاهدة تبنيها، للتعامل مع المتغيرات الجذرية التي فرضها انقلاب يوليو/تموز الماضي.
فعلى الأرض، كانت الولايات المتحدة تعول على فتح حوار مع السلطات الجديدة، وكانت تأمل أن تؤثر في الخيارات الاستراتيجية التي ستتبعها نيامي من جهة والحفاظ على قاعدتها العسكرية المتواجدة في منطقة أغاديز من جهة أخرى.
لكن، وبعد بضعة أشهر فقط من رحيل الجنود الفرنسيين من البلاد، جاء وقت رحيل القوات الأمريكية.
ومع أن النتيجة كانت محسومة في أروقة نيامي منذ طلبها من واشنطن الرحيل من على أراضيها، فإن حيثيات التعامل والتنفيذ تبدو مختلفة عما حدث مع فرنسا حين جرى طردها، ما يعني أن العسكر منحوا واشنطن «امتيازات خروج» مع حفظ ماء الوجه.
مسار واحد بخيارات مختلفة تطرح استفهامات حول طبيعة «الخطة الناعمة»، التي كانت واشنطن تعول عليها في الحفاظ على موطئ قدمها بالبلد الأفريقي، وكواليس قرار كان بديهيا في ظل التوازنات الجيوسياسية الجديدة بالمنطقة بأسرها.
«مكافأة نهاية الخدمة»
وكان يمكن أن تحدد النيجر جدولا زمنيا لانسحاب القوات الأمريكية، وتنهي الأمر بشكل عمودي كما فعلت مع فرنسا، لكن يبدو أنه رغم القطيعة، فإن نيامي أرادت فك ارتباط «ودي» مع واشنطن.
وبناء على ذلك، حصلت أمريكا على هامش للرد على طلب الرحيل، وهو ما لم تتمتع به فرنسا التي لم تمنح أكثر من هامش زمني محدد لحزم أمتعتها.
وأعلنت واشنطن، الجمعة، موافقتها على سحب قوّاتها البالغ قوامها أكثر من ألف جندي من النيجر بناء على طلب نظام نيامي.
ووافق نائب وزير الخارجية الأمريكي كورت كامبل على طلب سلطات نيامي سحب القوّات، وذلك خلال اجتماع في واشنطن مع رئيس الوزراء علي الأمين زين، الذي تولّى السلطة عقب انقلاب يوليو الماضي، وفق ما قال مسؤولون أمريكيّون لوكالة فرانس برس اشترطوا عدم كشف أسمائهم.
وينصّ الاتّفاق على إرسال وفد أمريكي إلى النيجر خلال الأيّام المقبلة، للتوافق على تفاصيل انسحاب هذه القوات المنخرطة في مكافحة الإرهاب، فيما لم يصدر تعليق رسمي على الفور عن وزارة الخارجية الأمريكية. كما لم يُحدّد الجدول الزمني للانسحاب.
لماذا؟
لماذا قرر المجلس العسكري طرد القوات الأمريكية؟ الإجابة عن هذا السؤال ترتبط باستعراض مسار العلاقات بين الجانبين وصولا إلى نقطة التحول التي أنتجت القرار وقادت واشنطن إلى نفس مصير باريس مع اختلاف في التفاصيل.
وقد بذلت الولايات المتحدة جهودا كبيرة، وحركت جميع أدواتها الدبلوماسية، لتفادي سيناريو باريس التي اضطرت لمغادرة النيجر نهاية 2023، ولذلك كان عليها أن تتبنى نهجا مغايرا تماما، وتتعامل بشكل مختلف مع الحكام الجدد.
وبالفعل، تبنت واشنطن استراتيجية أكثر تصالحا مع العسكر، وكانت مشحونة بآمال أن يقودها ذلك إلى تفاهمات تعزز وجودها، لكن يبدو أن هفوة ارتكبتها بعد الانقلاب مباشرة، كانت كفيلة بوضعها على اللائحة السوداء،
فرغم أنها اتبعت خطة مغايرة لفرنسا في ردها على الانقلاب، فإن وصفها له على "أنه محاولة من قبل العسكريين للاستيلاء على السلطة"، لم يرُق كثيرا للمجلس العسكري الذي كان يرصد ردود الفعل الأجنبية بدقة متناهية.
واشنطن من جانبها كانت تعول على قانونها للاعتمادات المالية السنوية وما تقدمه للنيجر من مساعدات مالية ولوجستية وعلى برامج المساعدة الإنمائية وتعزيز الشراكة العسكرية معه، ولم تكن تعتقد أنه يمكن لأي حاكم أن يتخلى عن كل ذلك.
وبناء على ما تقدم، قررت واشنطن فتح محادثات مع سلطات النيجر في خطوة هدفها عودة الحكومة المدنية إلى السلطة، لكن دون جدوى.
ففي 10 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، صعدت الولايات المتحدة لهجتها واعترفت للمرة الأولى أن ما وقع في النيجر "انقلاب عسكري"، فيما علقت غالبية البرامج الإنمائية والداعمة للبلاد، من بينها برنامج مساعدة وتدريب القوات النيجرية.
لكن ورغم هذا التغيير في الاستراتيجية، لم تكن واشنطن ترغب في إنهاء الشراكة مع النيجر ولم يصرح أي طرف عن احتمال مغادرة قواتها للبلد الأفريقي، بل بالعكس كانت تريد تعزيز وجودها عبر الاستفادة من الانسحاب الفرنسي.
عامل آخر، وهو أن واشنطن لم تبد ارتياحها لتقارب مالي وبوركينا فاسو من جهة، ولنهاية الاتفاقيات الأمنية بين نيامي والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، فكانت تلك نقطة أخرى لم تمض لصالحها.
وفي البداية، ساند النظام العسكري في النيجر الموقف الأمريكي الذي يدعو إلى منح الأفضلية للحوار السلمي عوضا عن التدخل العسكري لدول المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، وكان يمكن أن يساعد ذلك في تغير نمط التعامل مع الوجود الأمريكي.
لكن يبدو أن واشنطن لم تفهم جيدا أن نيامي وباماكو ووغادوغو كانت ترفض أي تدخل في شؤونها أو الانحياز إلى جهة ما، ففي الكواليس، بدا واضحا أنها تريد أن تكون لها كلمة في مجريات الأمور وخيارات الحكام، وهذا ما جعل العسكر يرفع بوجهها «كارت أحمر».
ولم يكن ينتظر سوى التوصل إلى حجة، وهو ما وجده في اتفاق أمني بين البلدين اعتبره «غير متوازن»، فكان أن ألغاه لينهي بذلك أي شرعية لوجود القوات الأمريكية على الأرض الأفريقية.