التمرد الذي يقوده الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ضد الحقائق البسيطة، يصنع مقدارا من الفوضى لن يتوقف قبل انقسام الحزب الجمهوري.
يعرف ترامب أنه خسر انتخابات العام 2020، إلا أنه تكابر على الحقيقة وأنكرها. ويعرف أنه ارتكب مخالفات، على الأقل، إن لم تكن جنايات وجنح يواجه بسببها حزمة محاكمات، إلا أنه ظل يعتبرها جزءا من "مؤامرة" ضده.
ويعرف أنه وقع خلال سنوات رئاسته في زلات خطيرة، ليس أقلها نكرانه لمخاطر وباء كورونا، إلا أنه ظل يعتقد أنه "أعظم رئيس عرفته الولايات المتحدة في تاريخها".
هناك شريحة اجتماعية عريضة في الولايات المتحدة، تؤمن بنظريات المؤامرة، وتنكر الحقائق البسيطة، وتعادي مؤسسات السلطة، وتريد من الديمقراطية إما أن تتوافق مع ما تراه وإما أنها لا تستحق الاحترام، بل ويمكن الانقضاض عليها لتدميرها كما حصل في اقتحام الكونغرس يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021 لمنع التصديق على فوز الرئيس دونالد ترامب.
هذه الشريحة جمهورية بالدرجة الأولى. يوجد مثلها في كل مكان في الولايات المتحدة، إلا أنها إذا أرادت أن تنتسب إلى حزب، فإنها لن تجد أفضل من الحزب الجمهوري، لأنه أصبح نوعا من قاعة فارغة من الأفكار، ويكفي بضعة غاضبين لكي يطلقوا أصوات الاحتجاج، فيتردد صداها وكأنها تمثل كل شيء.
هذا هو السبب الذي يجعل ترامب يحظى بتأييد ساحق لدى القاعدة الجمهورية، بينما يبتعد عنه أقرب منافسيه على ترشيح الحزب للرئاسة بأشواط تزيد على أربعين نقطة.
وهناك متنافسون عدة، بينهم نائب الرئيس السابق مايك بنس، كما أن بينهم حاكم فلوريدا، رون ديسانتيس، وهم لا يزالون يخوضون السباق، ويعرفون في الوقت نفسه أن محاولاتهم يائسة، وأن ترامب هو من سوف يفوز بالترشيح، حتى لو من وراء القضبان.
11 نائبا "متمردا" ممن يمثلون تلك الشريحة، سيطروا على "القاعة" في الكونغرس، وعلا الضجيج، حتى أطاحوا برئيس مجلس النواب، كيفن مكارثي، وكأنهم هم الحزب الجمهوري كله.
معظم هؤلاء النواب دخلوا إلى المجلس في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. عدد آخر من نظرائهم لم يفلحوا بالفوز بمقاعد، إلا أنهم يتصرفون على أنهم يمثلون القاعدة الجمهورية كلها، ويدعمون ترامب لأن النكران والغوغائية أصبحت جزءا لا يتجزأ من معادلة السياسة، وتحتل مكانة مرموقة في القدرة على إثارة الضجيج، المليء بالمؤامرة، والخالي من الأفكار.
سقوط مكارثي من رئاسة مجلس النواب، فيما يعد "سابقة تاريخية" بعد أقل من عام على انتخابه، يعني أن مجلس النواب سوف يغرق في فوضى مديدة.
لا تشريعات يمكنها أن تُقدم من دون انتخاب رئيس جديد. وحيثما كان مكارثي مضطرا إلى تقديم الكثير من التنازلات لأنه كان بحاجة إلى أصوات تلك المجموعة المتمردة داخل الأغلبية المحدودة التي يملكها الجمهوريون في المجلس، فإن هذه المجموعة سوف تظل تهيمن على المجلس، وتختار تعطيله على أن تأتي برئيس يتوسط المسافة بين "الترامبيين" وبين أقرانهم الجمهوريين الآخرين.
هذه المجموعة كانت تريد وقف تمويلات المؤسسات الحكومية نفسها، لتصاب بالشلل، حتى لتعجز عن دفع رواتب موظفيها. وليس كثيرا عليها أن تصيب الكونغرس بالشلل.
الغوغائية السياسية التي تجرؤ على نكران الحقائق البسيطة، لا تملك متسعا للتوسطات، ولا تتيح فرصة للتوسطيين. وإلا ما كانت بحاجة إلى مهاجمة الكونغرس لكي تفتش عن مايك بنس لتشنقه، في خضم دعوات صريحة إلى قتله، وذلك لمجرد أنه أدى دوره الدستوري (ذا الطبيعة الإجرائية المجردة) في قيادة المصادقة على فوز بايدن.
هذا الواقع سوف يدفع في النهاية إلى انقسام الحزب الجمهوري. وهي نتيجة ليست سيئة بالضرورة. على الأقل لأنها تحرر ذوي الرشد في هذا الحزب من تلك الغوغائية، وتحاول أن تستعيد قدرتهم على أداء دورهم الطبيعي في حزب قدم للولايات المتحدة رؤساء أنضج عقلا، وأوسع أفقا من الرئيس ترامب.
الفوضى التي يثيرها "الترامبيون"، داخل الحزب الجمهوري، والتي لا تزال تهيمن على المناوشات السياسية في البلاد منذ انتخابات العام 2020، تهدد في الواقع قدرة الولايات المتحدة على أن تملأ مكانها في العالم. وهو أمر يُجبر الكثير من القوى الفاعلة على التحصن ضد الفوضى المحتملة في إدارة العلاقات الدولية.
قد تكفي انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني من العام المقبل، لتضع حدا لهذه الفوضى، إذا ما فشل ترامب في العودة إلى البيت الأبيض. على الأقل، لأنها سوف تمنح ذوي الرشد في الحزب الجمهوري لكي يرفعوا أصواتهم ضدها. ولكن ما الذي سوف يحصل لو عاد ترامب فعلا؟
إنه سؤال يجعل أي جواب له مثيرا للرعب، داخل الولايات المتحدة وخارجها على حد سواء.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة