سرقت الحرب السورية والحروب التي دارت على أرض هذا البلد، مباشرة أو بالواسطة، أنظار العالم على مدى سنوات.
سرقت الحرب السورية والحروب التي دارت على أرض هذا البلد، مباشرة أو بالواسطة، أنظار العالم على مدى سنوات. ولا غرابة في الأمر. سوريا دولة أساسية في المنطقة بموقعها، وما يحدث فيها يعني الدول المجاورة وتوازنات الإقليم وتجاذباته ونزاعاته، وبينها النزاع العربي-الإسرائيلي. يضاف إلى ذلك أن سوريا كانت أيضاً مسرحاً لتدخلات الدول الكبرى من مواقع متناقضة ومتنافسة، فضلاً عن معركة واسعة ضد التنظيمات الإرهابية. ولا يغيب أيضاً أن الأحداث في سوريا اعتبرت حلقة من حلقات ما سمي «الربيع العربي». وهي حلقة أنجبت مأساة النازحين واللاجئين، خصوصاً بعدما سلك سوريون كثيرون طريق أوروبا.
تدور «المعركة الكبرى» بين اقتصادات ضخمة وشركات عملاقة، لهذا يتوقف المراقبون عند الحرب التجارية بين الصين وأمريكا ومعركة خدمات الجيل الخامس للإنترنت. وهذا ما يفسر القلق الأمريكي والغربي من شركة «هواوي» الصينية، وهي ثاني شركة اتصالات في العالم
كانت الحرب في سوريا مجموعة حروب متباينة المصالح والأهداف، تفترق في محطات، وتتداخل في أخرى، ودفعت حدة المواجهات كثيراً من السياسيين والمعلقين إلى الذهاب بعيداً في التحليلات والمخاوف، بينهم من اعتقد أن «المعركة الكبرى» تدور على أرض سوريا، وأن نتائجها ستحدد موازين القوى الدولية والإقليمية في المرحلة المقبلة، خصوصاً بعدما قلب اللاعب الروسي الطاولة على الآخرين بتدخله العسكري المباشر، وثمة تخوف أن تطلق التدخلات الكبرى في سوريا أزمة شبيهة بأزمة الصواريخ الكوبية في مطلع الستينيات، التي وضعت يومها أمريكا والاتحاد السوفياتي على شفير مواجهة نووية.
لا أريد أبداً التقليل من حجم الأزمة السورية والمأساة السورية، لم تختتم هذه الأزمة بعد، وإن تكن اتضحت بعض الخطوط العامة لنتائجها، ولا يمكن إنكار أن هذه النتائج ستترك بصماتها على سوريا نفسها وعلى بعض العلاقات في الإقليم، لكن بسبب الطبيعة الداخلية والإقليمية للأزمة لا بد من التمهل قليلاً قبل إعداد لائحة كاملة بالخسائر والأرباح، فالأقوى في الحرب ليس بالضرورة الأقدر في الإعمار، وحسابات كبار المتدخلين لا تتطابق دائماً مع حسابات حلفائهم المحليين.
يضاف إلى ذلك أن منطق الأيام المذعورة يختلف عن منطق الأيام التي لا تشبهها، وهناك من يعتقد أنه من التسرع أن تحتفل هذه الجهة أو تلك بوجودها العسكري على الأرض السورية؛ لأن الشعب السوري ليس معروفاً بتقبل الوصايات أو الرغبة في التعايش طويلاً مع أعلام كثيرة على أرضه.
لا يمكن إنكار أن الأزمة السورية وفّرت لفلاديمير بوتين فرصة مواتية لإبلاغ العالم أن روسيا جديدة قد ولدت على الصعيد الدولي، وأنه على الغرب أن ينسى روسيا المستضعفة غداة الانهيار السوفياتي والمصابة بعقدة أفغانستان، على غرار إصابة أمريكا سابقاً بعقدة فيتنام، لكن لا بد من تذكر أن روسيا كانت حاضرة في سوريا قبل تدخلها، وأن أمريكا في عهدي باراك أوباما ودونالد ترامب اعتبرت أن الفوز بسوريا لا يستحق إنفاق بلايين الدولارات ودم الجنود الأمريكيين، تصرفت واشنطن على أساس أن مرابطة الجيش الروسي في سوريا لا تشكل انقلاباً على موازين القوى، ولم تتعامل مع مجريات المعركة في سوريا بوصفها المعركة الأخيرة أو المعركة الكبرى. وهناك من اعتقد في واشنطن أن سوريا ستتحول عبئاً على المنتصر فيها؛ لأنه سيتحمل عملياً مسؤولية إعادة إعمارها أو الاضطرار إلى توزيع الأرباح على آخرين إذا كان عاجزاً عن القيام بهذه المهمة.
يمكن قول شيء مشابه عن لاعبين إقليميين؛ فإيران أسهمت عبر «مستشاريها» والمليشيات التابعة لها في منع إسقاط النظام السوري، وتمتلك اليوم حضوراً ميدانياً على الأرض السورية، وربما داخل النسيج السوري نفسه. لكن لا بد من الالتفات إلى أن سوريا ما قبل الحرب كانت حليفاً كاملاً لإيران، ثم إن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل مشكلة النظام الإيراني هي في سوريا أم داخل الخريطة الإيرانية؟ وهي اقتصادية بالدرجة الأولى يفاقمها بلوغ الثورة عامها الأربعين مع استمرار رفض الممسكين بقرارها التحول إلى دولة طبيعية أو شبه طبيعية، على غرار ما حدث لثورات أخرى أنقذت نفسها باعتناق منطق الدولة والمؤسسات في الداخل والخارج.
تركيا أيضاً وسّعت حضورها الميداني على الأرض السورية، متذرعة بالخطر الكردي على أمنها القومي، لكن هل مشكلة تركيا داخل الأراضي السورية أم مشكلة خيارات داخل الخريطة وخارجها؟ وهل تملك تركيا اقتصاداً يستطيع احتمال أعباء دور إقليمي كبير؟
في لندن يعتقد دبلوماسيون وخبراء أن حروب المواقع الاستراتيجية في العالم فقدت كثيراً من أهميتها السابقة، ويرون أن «المعركة الكبرى» المفتوحة لن تدور بالأساطيل والمدمرات والتدخلات العسكرية، لقد تغير العالم.. المعركة الكبرى تدور داخل السباق الاقتصادي المحموم، وهي تُخاض في الشركات العملاقة والجامعات ومراكز الأبحاث.. معارك تدور بأسلحة الابتكار والتجديد والتفوق والانتشار.. معارك تحسمها أرقام المبيعات والاستثمارات والقدرة على التنافس.
يتحدث هؤلاء عن النتائج الأولية لـ«المعركة الكبرى» الفعلية، وهي تشير إلى أن المعركة ستستمر في السنوات المقبلة بين 5 كتل اقتصادية مؤثرة، هي: الصين وأمريكا والهند وأوروبا وروسيا، ويركزون على أن هذا السباق الذي لا هوادة فيه سيتأثر بمجموعة عوامل، هي: التكنولوجيا والسكان والاقتصاد بمجمله والقدرة العسكرية، ويشيرون في هذا السياق إلى تراجع ياباني محتمل، تحت وطأة شيخوخة المجتمع، وإلى افتقار البرازيل وجنوب أفريقيا إلى عناصر ضرورية لدخول نادي الخمسة، بينها حجم الكتلة السكانية.
تدور «المعركة الكبرى» بين اقتصادات ضخمة وشركات عملاقة، لهذا يتوقف المراقبون عند الحرب التجارية بين الصين وأمريكا ومعركة خدمات الجيل الخامس للإنترنت، وهذا ما يفسر القلق الأمريكي والغربي من شركة «هواوي» الصينية، وهي ثاني شركة اتصالات في العالم، فهذا النوع من الشركات قادر على أن يلحق بالدولة المنافسة أضراراً تعجز عنها الجيوش.
إننا في عالم جديد، شئنا أم أبينا.. ما دار على الأرض السورية كان مهمًّا، لكن «المعركة الكبرى» لم تكن هناك.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة