شاشة التسامح الكبيرة.. سينما لعالم أكثر رحابة
عبر شاشة السينما يخاطب مصطفى العقاد جمهور السينما الغربية بصورة بهية عن الإسلام، ويقدم عبر "الرسالة" سيرة درامية لقيم التسامح والعدل
وسط عتمة الصالة التي احتضنت العرض الأول لفيلم "الرسالة" في العاصمة البريطانية لندن عام 1976، وعلى مقاعدها الخلفية، جلس المخرج الراحل مصطفى العقاد يترقب رد فعل مشاهدي فيلم يفترض أن يخالف كثيراً من تفاصيل الصورة الذهنية التي عرفوها عن الإسلام، ومع انطلاق عاصفة التصفيق في نهاية الفيلم أطلق لأنفاسه العنان وقد أدرك أن الرسالة وصلت.
"الرسالة" (1976)
حتى بلوغه هذه اللحظة، كان العقاد واجه عقبات إنتاجية ورقابية كثيرة، قبل أن يستطيع إنجاز فيلم "الرسالة" الذي تناول السيرة النبوية لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولعل ما من شيء كان قادراً على مسح معاناته الكبيرة في مرحلة ما قبل إنتاج الفيلم وبعدها مثل عاصفة التصفيق هذه.
كسينمائي درس وعمل في هوليود وخَبَر أساليبها، يعرف المخرج العقاد أن جمهور السينما يرى ويسمع في عتمة صالاتها، ولكن تصفيقه يعلو صوته في النور خارجها، وهذا ما يجعل السينما أكبر معلم لعشاقها فهي تغذي أرواحهم بالجمال كما تغذي عقولهم بمقولاتها، ومن أجل ذلك كله عقد المخرج السوري الراحل آماله عليها في توضيح حقيقة الإسلام وسمو الرسالة التي جاء بها الرسول محمد عليه السلام إلى العالم، بروح التسامح ولغة المحبة ومكارم الأخلاق.
التجربة أيضاً علمت العقاد وسواه من عشاق الفن السابع، أن طبيعة التلقي في السينما، تجعل من هذه الأخيرة أداة تأثير وتبشير، ووسيطاً من شأنه أن ينظم علاقتنا مع العالم من حولنا، ويكون تجربة حياة تضيء في أرواحنا ما التبس أو خفي علينا، وكما كانت السينما وسيلة لتشويه الصورة غدت وسيلة لتصحيحها أيضاً.
عبر شاشة السينما خاطب مصطفى العقاد جمهور السينما الغربية بصورة بهية عن الإسلام المتسامح والمتنور، وقدم عبر "الرسالة" سيرة درامية لقيم التسامح والعدل والحق والإيمان التي تمثلت في رسالة الإسلام وروحه، وهو الأمر الذي حرص العقاد على إظهاره مدروساً بعناية في كل مشهد قدمه، انطلاقاً من فهم خاص للمادة التاريخية التي بين يديه ووعي لقيمة الصورة والكلمة والموسيقى في إيصالها إلى جمهور السينما، على نحو يمكن القول إنه لم يخل مشهد في فيلم "الرسالة" من رسالة سامية للإسلام وقيم التسامح بين الأديان والأعراق، إضافة إلى المحبة والعدل والإحسان التي عمل على نشرها.
وبذلك استطاع مصطفى العقاد تحريك الماء الراكد المتعلق بالفكرة المغلوطة التي رُسمت في ذهنية بعض المجتمعات الغربية عن الإسلام والمسلمين، وهو الأمر الذي دفع المجلة الأمريكية الشهيرة (Entertainment weekly) لوضع فيلم "الرسالة"في المرتبة (11) ضمن قائمة أكثر الأفلام العالمية إثارة للجدل في التاريخ.
"مملكة السماء" (2005)
رسالة التسامح والمحبة بين الأديان بأبهى صورها، ستظهر في فيلم "مملكة السماء " للمخرج ريدلي سكوت، فإذا ما تجاوزنا الأخطاء التاريخية في الفيلم، لابد أن نتوقف عند مشاهد عديدة حملت مدلولاتها العميقة معاني بليغة للتسامح.
في مشهد لافت وجدلي، يدخل القائد صلاح الدين إحدى الكنائس فيجد صليباً ملقى على الأرض فينحني ليرفعه ويضعه في مكانه، وفي مشهد لقائه الأخير مع القائد باليان للاتفاق على دخول القدس، يخبره هذا الأخير رداً على تعهد صلاح الدين بضمانة سلامة كل روح للخروج لأي بلد مسيحي، بأن "المسيحيين قتلوا كل المسلمين عندما أخذوا منهم القدس"، فيجيبه صلاح الدين: "أنا لست مثلهم.. أنا صلاح الدين" والإشارة إلى الاسم هنا ليس للشخص وإنما لما يمثله في هذا المقام، أي الإسلام وقيمه.
قبل هذا الحدث سنسمع القائد باليان يحفز أهل القدس على مقاومة حصار صلاح الدين بالإشارة إلى أن ما من أحد سواهم سيدافع عن القدس بجميع مقدساتها، وفي واحد من المشاهد الأخيرة في الفيلم سيقول باليان عن القدس: "إن كانت هذه مملكة الجنة، فليفعل بها الله ما يشاء".
وفي هذين المشهدين يمكن للمشاهد تلقي عدة مضامين تتعلق بقيم التسامح والتعايش على عدة مستويات، لكن أحد أبرز معانيها هو أن "الدين لله والوطن للجميع".
"غاندي" (1982)
التسامح بين الأعراق والأديان والثقافات سيظهر في فيلم "غاندي" للمخرج ريتشاردأتينبورو الذي يحكي مسيرة كفاح المهاتما غاندي من أجل نيل الهند استقلالها، ابتداء من مشكلة بسيطة واجهته في القطار في جنوب أفريقيا، حين طلب منه أن يغادر جناح الدرجة الأولى، رغم أنه يحمل التذكرة الخاص بها، فقط لأنه لا يسمح للهنود بالجلوس في هذا المكان.
رسالة التسامح بين الأديان سنسمعها صراحة في الفيلم على لسان غاندي وهو يتحدث عن طفولته مع الصحفي الأمريكي والكر، إذ يقول إنه نشأ هندوسياً، لكن الكاهن في هيكله كان يقرأ أيضاً من القرآن"، وتالياً سيقول غاندي لأتباعه: "أنا مسلم وهندوسي ومسيحي ويهودي وكذلك أنتم جميعاً".
يبدأ غاندي صوماً طويلاً من أجل السلام وإنهاء استخدام العنف، وحين يأتيه أحد أتباعه ليعترف له بأنه قتل طفلاً من طائفة أخرى رداً على الأذى الذي تلقاه من أبناء هذه الطائفة، يطلب منه غاندي أن يتبنى طفلاً يتيماً من هذه الطائفة ويربيه.
لا مواربة في فيلم "غاندي" ولا إشكالية في فهم ما يريد قوله، فرسالته واضحة؛ التسامح أقصر الطرق إلى السلام، واللاعنف أصدق من أي سلاح.
"اسمي خان" (2010)
على نحو مشابه للفيلم البريطاني الهندي "غاندي "، حمّلت بوليود فيلمها "اسمي خان" في العام 2010 رسالة التسامح السامية، على نحو صريح أيضاً، في محاولة لتقديم رد حضاري على حملة العداء الكبيرة التي واجهها المسلمون في أمريكا إثر أحداث 11 سبتمبر/أيلول الشهيرة وقصف مبنى التجارة العالمي.
أكثر من عقدة في البناء الحكائي لفيلم "اسمي خان" شكلت حاملاً رئيسياً لرسالة التسامح ونبذ التعصب الطائفي والعرقي، أولها الفكرة الرئيسية التي قامت عليها حدوتة الفيلم بقرار بطل الفيلم رضوان خان السفر إلى واشنطن لمقابلة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ليخبره أنه مسلم وليس إرهابياً، قبل أن يفاجأ بإيقافه في مطار سان فرانسيسكو وتفتيشه على نحو ذاتي بناء على اسمه وملامحه، وتالياً اعتقاله وتعذيبه حين يحاول إيصال الرسالة ذاتها للرئيس الأمريكي أثناء خطابه في ولاية جورجيا.
يعتمد الفيلم أسلوب سرد درامي دائري في تقديم حكايته، فيعيد البطل إلى ذكريات طفولته عبر مشاهد "فلاش باك" حيث سنشهد حادثة يبدو أنها كانت العامل الحاسم في الخيارات الحياتية لرضوان خان، المصاب بالتوحد، إذ سيتذكر رضوان خان كيف أخبر أمه أنه يريد قتل الهندوس الذي شنوا هجوماً على أبناء جلدته المسلمين في محاولة قتلهم، لكن الأم تشرح له أن لا فرق بين هندوسي ومسلم، وإنما الفرق يكمن بين الشرير والطيب منهما، فترسم له شخصين الأول يحمل عصا والثاني يحمل (مصاصة) لتسأله أي منهما الهندوسي أو منهم المسلم، وحين يخبرها أنهما متشابهان، ستقول له: "يوجد نوعان فقط من البشر في هذا العالم، أناس أخيار يفعلون أعمالاً خيرية، وأناس أشرار يرتكبون أخطاء، وهذا هو الفارق الوحيد بين البشر".. هذه المقولة ستبدو الأكثر صدقية، وتأثيراً في حياة رضوان خان، والرسالة الأوضح للفيلم لمشاهديه.
في هذه الأفلام وما يشبهها، يبرز عادة سؤال إشكالي، عما هو دعائي فيها وما هو حقيقي وواقعي؟ يقول الناقد الأمريكي المعروف روجر ايبرت: "لا يتعلق الأمر بما يدور حوله الفيلم، بل عن كيفية حدوثه في الفيلم"، وكأن الرجل يريد أن يقول إن العقل هو الأقدر على فصل ما بين الادعاء وبين الحقيقة، وبالتالي لا يستوجب أخذ الحقيقة جاهزة، وإنما استخلاصها من السرد الدرامي والحوار وإعمال العقل فيها، بمعنى أن مشهداً يمنح صدقية مشهد ثان، فمشهد رفع صلاح الدين للصليب من الأرض (الدرامي)، على سبيل المثال، سيكتسب حقيقة رسالته من إعطاء صلاح الدين العبور الآمن لكل روح في القدس نحو أي بلد مسيحي (حقيقة تاريخية متداولة).
في كل مرة ستكون السينما لعالم أكثر رحابة، عظيمة بمبناها ومعناها، بمقدار قدرتها على تعزيز علاقتنا مع العالم حولنا، وإعلاء شأن القيم فيه، تلك القيم التي لا يختلف اثنان من العقلاء عليها.
aXA6IDMuMTQ1LjEwLjgwIA== جزيرة ام اند امز